مهندس عزمي إبراهيم
كما ذكرت في الجزء الأول، عصر "الزمن الجميل" كان أزهي وأقوي وأنبل عصر في في عصور عديدة طويلة توالت على مصر بعد العصر الفرعوني العظيم. وحيث أن هذا المقال والمقال السابق له أي (الجزء الأول) يتحدثان خصيصاً عن تقدير الإسلام في ذلك العصر، فيمكن القول أن عصر "الزمن الجميل" كان أزهي وأنقى وأنبل عصر في مصر بل وفي الشرق الاسلامي العربي كله في الثلاثة عشر قرون الإسلامية السابقة له وفي الستة عقود التي تلته.
 
ففي الفترة من منتصف خمسينات القرن العشرين حتى عام 2013 لم تر مصر ما يقرب من واحد في المئة من عظمة الزمن الجميل. فبعد يوليو 1952 بدأ تدهور مصر والحياة بمصر بكل نواحيها تدريجياً حتى ساءت لدرجة مؤسفة ومخجلة ومؤلمة. كانت مصر خلالها "أمة عبث بها وبهويتها حكامها". فعبد الناصر بعَربنة مصر، والسادات بأسلمة مصر، ومبارك بتمييع مصر، وأخيراً مرسي الذي كان دمية في يد الأخوان فقاموا بتفكيك مفاصل مصر واهدار حيويتها وعقول شبابها بالاشتراك مع السلفيين وباقي الجماعات الإرهابية المتطرفة المنبثقة منهما.
 
ذكرت في المقال السابق، أن هناك الكثير من معالم الزمن الجميل يستحق الذكر والتقدير يصعب حصره في مقال واحد. وأدرجت بالجزء الأول بعضاً مِمّا مَسَّـني شخصياً، وهاهنا أدرج المزيد. أسردها بفخر كمواطن مصري عاصر ذاك الزمن الجميل وسبح في بحره وسمائه. ولغيري ممن عاصروه ما يماثلها ويفوقها من ذكريات. هذه مرآة حق صادقة تكرم الاسلام والمسلمين. وشتان بين ذاك العصر والستة عقود التي تلته.
 
أكرمني الله بأن حباني شخصية اجتماعية، أحب الناس جميعاً في أي مجال أحتك بهم، وبالتالي أكتسب محبتهم بسهولة. لا أفرق بين الناس وفقاً لدين أو جنس أو لون أو عرق، فكلنا من صنع الله. أذكر أنه خلال مراحل التعليم الثانوي والجامعي بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية ثم خلال حياتي العملية إحدى عشر سنة قبل هجرتي من مصر لأمريكا كان لي ثروة من الأصدقاء المسلمين والمسيحيين، ولأن الأغلبية بمصر مسلمة ولأني لا اتعمد انتقاء أصدقائي من ديني فقط، كان من الطبيعي أن يكون أصدقائي المسلمين أكثر عدداً من المسيحيين.
والحقيقة أننا كمصريين ((في ذلك العصر)) لم نكن نحرص أن ننتقي أو نفضِّل أو نتعَمّد أن يكون أصدقائنا من ديننا فقط. كانت صداقاتنا تأتي تلقائياً عفوياً، حيثما ترسي على شواطئ شخصياتنا وعواطفنا وميولنا المشتركة، تماماً مثلما لم نكن نختار اخوتنا من والدينا. فلا فرز ولا تمييز. لم تكن الديانة مادة مكتوبة في بطاقات سلوكياتنا وتصرفاتنا العامة، كما لم تكن في البطاقات الحكومية قبل أن يقرر وضعها المغرضون (السفهاء) في السبعينات من القرن العشرين متخذين اختلاف الدين وسيلة لفرز وعزل وتمييز بين أبناء الوطن الواحد. بل أبناء "الأمة الواحدة" "الأمة المصرية". أعرق الأمم في تاريخ البشرية، والتي كانت بوتقة أديان"!!
 
لا أنسى أنه بمجرد تخرجي من كلية الهندسة جامعة الإسكندرية مباشرة أن عُيّنت بأمر تكليف بهيئة السكة الحديد. وأول منصب بها كان "مهندس منطقة ملوي" بالوجه القبلي. وبعد عام تقريباً نقلت للدلتا شمال مصر كمهندس منطقة بالمنصورة، وكنت أعزباً بعيداً عن أسرتي وأسكن بمفردي في شقة صغيرة بأحدي العمارات. انتابني مرض ألزمني الفراش. ولمدة يومين كان صديقي مصطفى حسين الجمل مهندس كهرباء بالمنصورة يمر عليَّ يومياً قبل وبعد العمل للاطمئنان عليَّ وقضاء طلباتي. ولما اشتد عليَّ المرض مصحوباً بحرارة شديدة وطلبت منه أن يساعدني في السفر لأسرتي لرعايتي، أصَرَّ على دعوة طبيبً ليزورني بشقتي. نصح الطبيب بعدم سفري وقرر لي أدوية وبضرورة وجود شخص يرعاني في فترة مرضي أو نقلي إلى مستشفى. 
في بدء الأمر أخذ مصطفى يومين اجازة من عمله ليرعاني ولم يقبل أن أدفع له ما دفعه أجرة للطبيب وثمناً للأدوية. ولما طال المرض ولصعوبة استمرار غيابه عن عمله دعا السيدة والدتة رغم كبر سنها لتظل بصحبتي طول النهار تخدمني وترعاني وتعد طعامي وأدويتي لحين حضوره من عمله. استمر هذا الوضع لما يقرب من اسبوعين حتى لمست في نفسي القدرة على ترك الفراش فسافرت لأسرتي لأقضي فترة النقاهة. لم يكن هناك ما يشين الدين في أن يقوم مصطفى حسين الجمل (مسلماً كريماً) برعاية شخص من غير دينه، أو أن تقوم (سيدة مسلمة مُسِنة كريمة محترمة) بعمل إنساني كرعايتها لشخصٍ أعزب مريض من غير دينهاً.
 
نقلت من المنصورة إلى وظيفة مهندس منطقة طنطا وهي من أهم مناطق هندسة السكة الحديد بمصر لموقعها الحساس وتفريعاتها ومسئولياتها العديدة. في اليوم السابق لاستلامي العمل بطنطا توجهت لمبنى هندسة السكة الحديد بطنطا لمقابلة رئيسي المستقبل ولقبه الرسمي "باشمهندس قسم طنطا" ويلقب عامة بـ "الباشمهندس" وهو يرأس خمسة مهندسي مناطق منها منطقة طنطا وأربعة مناطق أخرى خارج طنطا. رحب بي الباشمهندس قائلا إنه سَمع عني الكثير مما يُسعده أن أعمل معه.
 
أثناء شرب القهوة بمكتبه وقيامه بعرضٍ موجز للمشروعات الجارية والمتوقعة بمنطقتي. ذكرت له أني بمروري على الحديقة الجميلة بين مبنى مستشفى السكة الحديد ومبنى هندسة السكة الحديد لاحظت وجود "مُصَلّيّة" متواضعة ومتهالكة في مدخل الحديقة تستحق الترميم أو إعادة البناء كي تليق بالحديقة وبالمبنيين الفاخرين. وافقني وازاد أنه توجد ميزانية لهدمها وانشاء مصلية لائقة هندسيأً بداخل الحديقة، وأراني الملف الخاص بميزانيتها. وقبل أنهاء الزيارة قدمني الباشمهندس لموظفي "قسم طنطا" بالدور الثاني ثم نزلنا إلى الدور الأول حيث قدمني لموظفي "منطقة طنطا" بالدور الأول من نفس المبنى.
 
وفي اليوم التالي، أول يوم لاستلامي مهندساً لمنطقة طنطا، أعطيت تعليماتي لمساعدي أن يطلب المواد اللازمة لبناء المصلية الجديدة، وتعيين نجار وعاملَين لهدم المصلية القديمة والتخلص من بقاياها وإعداد الموقع لزراعة نباتات. وعند توجهي لاجتماعٍ بهندسة الوابورات في ذات اليوم، ماراً بموقع المصلية القديمة لاحظت أن العمال قائمون بهدم المصلية. ولكن في طريق عودتي الى مكتبي بعد ساعة تقريباً لم يكن العمال موجودين والعمل غير مكتمل. استجوبت مساعدي عن سبب عدم وجود العمال، فأخبرني أن الباشمهندس أمر بإيقاف العمل. توجهت مباشرة لمكتب الباشمهدنس بالدور الثاني مستعلماً عن أسباب إيقافه العمل خلافاً لتوجيهاته في اليوم السابق. قال لي "اصرف نظر عن هذا المشروع فلدينا مشروعات أهم منه".
 
وفي اليوم التالي في طريقي إلى مكتبي صباحاً ماراً بالمصلية القديمة أدهشني وجود العمال قائمين بهدمها تحت اشراف الباشمهندس. تعجبت لسببين، أولهما التضارب في التوجيهات، والثاني قيام الباشمهندس شخصياً بالإشراف على العمل وهذا ليس من اختصاصاته بل من اختصاص مهندس المنطقة ومساعديه. وبسؤال الباشمهندس أجابني "نتكلم في مكتبك." وفي مكتبي بالدور الأرضي قال لي على انفراد "انت مسيحي. وفي أول يوم لك بالمنطقة تقوم بهدم مصلية المسلمين، وربما ينهض ضعاف النفوس لمهاجمتك فيما ليس لك ذنب فيه". واستكمل قوله ضاحكاً "دعني أشرف على هدم المصلية القديمة وأنت تشرف على بناء المصلية الجديدة".
 
هذا "الباشمهندس" كان اسمه محمد حلمي مصطفى الديب. عملت تحت رئاسته بطنطا ثلاثة سنوات عظام في غاية التفاهم والتعاون والاحترام المتبادل حتى افترقنا كل إلى طريق بترقيات وتنقلات. ولن أنسى قدر هذا "الإنسان" ما دمت حياً لا لشيء إلا لنقاء إنسانيته وصفاء سريرته وحساسيته وبُعد نظره. أسأل المتأسلمين اليوم، هل كان محمد حلمي مصطفى الديب مسلماً مؤمناً يحمل روح ومباديء الدين الراقية أم كان زنديقاً؟. كان الرجل "إنساناً" يرقى بإنسانيته إلى درجات أسمى وأعلى وأنقى ممن يتشدقون بإسلامهم لاهثين على السلطة والمناصب صارخين على المنابر، ساخطين حاقدين، داعين على الأبرياء وخادعين البسطاء، وليس بهم من الدين الحقيقي قدر ذرة.
 
بعد طنطا ارتقيت السلم في هندسة الحركة بالسكة الحديد متنقلاً من المنيا إلى بنها ثم طنطا مرة أخرى حتى وصلت إلى "أقسام الحركة بالقباري" وهي تشمل خطوط السكة الحديد بالإسكندرية وتمتد إلى قرب دمنهور جنوباً ورشيد شرقاً ومرسي مطروح والسلوم على حدود ليبيا غرباً. كان هذا المنصب آخر وظائفي بمصر قبل هجرتي لأمريكا. وهو منصب له مسئوليات كبيرة وله أيضاً مميزات كبيرة. منها أن أقطن شقة فاخرةً مكوناً من خمس حجرات رحبة من مباني أدارة السكة الحديد بجوار استاد الإسكندرية الرياضي، هذا علاوة على مميزات أخرى. تزوجت شريكة حياتي بذاك المنزل ورزقنا بأول أبنائي به.
 
وقبل زفافي، وأثناء فترة الخطوبة وإقامتي بطنطا للمرة الثانية، أردت أن أبارك عش الزوجية بلوحة فنية زيتية كبيرة الحجم للسيد المسيح في خلوته المقدسة على جبل الزيتون مدعمة ببرواز هندسي فني على شكل مسرح بستائر قرمزية وأضواء كهربائية غير مباشرة. فاخترت رساماً أسمه أحمد السعدني كان له استوديو بشارع أحمد ماهر بطنطا (نفس الشارع الذي كنت أسكن فيه وهو شارع رئيسي بين ميدان الساعة وشارع البحر بطنطا) ليرسمها ويشرف على تصميم وتنفيذ البرواز والستارة والإضاءة. لم يكن السبب في اختيار أحمد السعدني أنه أفضل من فنانين مسيحيين كثيرين أعرفهم وكان يمكنني تكليف أحدهم برسم الصورة، بل كان اختياري لأحمد السعدني أني لم تكن تفرق معي ولا معه في ذاك الزمن أن يكون مسلماً ويرسم صورة مسيحية. لم تكن الديانة تدخل في معادلات علاقاتنا الاجتماعية ومعاملاتنا الحياتية.
 
أذكر حين قدمت استقالتي من السكة الحديد للرغبة في الهجرة لأمريكا استجابة لعرض من شركة هندسية أمريكية كبيرة، وصلني تليفون من المهندس محمد حلمي مصطفي الديب "باشمهنس قسم طنطا سابقاً" والذي ذكرت علاقتي العملية به في فقرة سابقة، يدعوني إلى مقابلته بمكتبه بالقاهرة، وكان قد وصل إلى منصب "مدير عام" بدرجة وكيل وزارة في عهد الدكتور المهندس مصطفى خليل وزير المواصلات. وكنت وقتها كما ذكرت بأقسام الحركة بالإسكندرية. فوجئت لدعوته حيث أننا لم نلتقي أو نتواصل منذ افتراقنا.
 
استقبلني المهندس محمد حلمي مصطفى الديب بمكتبه بترحاب وسألني عن أحوالي وعرف مني أني تزوجت وحبانا الله طفلا. هنأني، ثم تبع التهنئة بعتاب أبوي بدأه بقوله: "كيف تضحي بكل ما أنت فيه من خير ونجاح وتقدير لتهاجر؟ أرني مهندساً من دفعتك سابق لك في المركز أو المرتب أو المميزات ليس فقط في السكة الحديد بل في أي جهاز من أجهزة الدولة جميعاً. أنت ستشتت أسرتك وتهد عشك بطموحك. أنصحك من أجل زوجتك وطفلك أن تسحب استقالتك". وتلك كانت حقيقة فكنت سابقاً لجميع دفعتي في كل مصالح الدولة، مركزا ومرتباً، وكنت أقيم في شقة رائعة مجاناً بالإسكندرية درة مدن مصر. حاول الرجل كوالد أن يثنيني عن فكرة الهجرة بصدق وإخلاص ومودة ومنطق. وختم لقائنا بقوله "أوراق استقالتك ستظل هنا على مكتبي لمدة أسبوع آملاً أن تعدل عنها، وان لم أسمع منك خلال أسبوع فلك موافقتي متمنياً لك التوفيق."
 
تلك "بعض" من ذكريات روائع من حنايا ذاك العصر الجميل بكل معنى الكلمة. وأختم بأن أعظم شعارين عشنا بهم في ذاك العصر كانا "تحيا مصر" و "الدين لله والوطن للجميع". ونفخر اليوم أننا عدنا نعيش بهما في عصرنا الناهض. حيث أبدي تفاءلي اليقيني بعودة ذاك "الزمن الجميل" أو مثيلاً له، فنحن اليوم نسائماً تشبه نسائمه، ونرى أمام أعيننا بوادراً ومعالماً واعده تكاد أن تكون ملموسة، شكراً لله وشكراً لمن أنقذ مصر من أمواج عاصفة سوداء شيطانية، وغرق كاد أن يكون مؤكدا.