فؤاد إبراهيم
كانت صدمة كبيرة لأكثر منمئة وثلاثين طفلامن ذوى الإحتياجات الخاصة فى مدرستهم فى بياض فى بنى سويف، حينما قيل لهم أن أمّهم وحبيبتهم تاسونى هبة "راحت السما". فمعظمهم أطفال لا يعون لماذا تركتهم أمّهم ، وهل سترجع اليهم قريبا،أم لا، فهم يحبونها فوق كل شيء. وهى تبادلهم نفس الحب أيضا. وقالت لى مرّة أن مُعلّمتها المتنيحة تاسونى جنفياف قالت لها يوما: "لمّا تشترى حاجة للعيال دى،إشتريلهم أحسن حاجة تلاقيها!" وكان الأطفال يحبّون أيضا تاسونى جنفياف فوق الوصف. وكان أحد الأطفال كثيرا ما يسألها بإنزعاج: "صحييح يا تاسونى حتروحى النار، زى مابيقولوا؟" فكانت دائما تهدّئ روعه بقولها: "ما تخافش يا حسين، ياحبيبى، كلنا إخوات."

تنيحت تاسونى هبة فى 23 ديسمبر 2021 فى عمر الشباب، فهى هى مولدة فى عام 1974، فى منشأة منبال مطاي بمحافظة المنيا. وبعد دراسة الخدمة الإجتماعية إلتحقت بدير بنات مريم ببنى سويف فى عام 1997 فى زمن المتنيح المطران الأنبا أثناسيوس لأنها كانت تحب الرهبنة الخادمة. هذا النوع من الرهبنة قد أحياه البابا كيرلس السادس والأنبا أثناسيوس فى عام ،1965 بتأسيس دير بنات مريم ببنى سويف، ،لكنه لم يحظى بالقبول فيما بعد، رغم أن كثيرا من الرهبان يخدمون فى مصر وفى المهجربلا حرج.

ولكى نبين للقارئ المدقق أن طريق الرهبنة الخادمة ليس بدعة، بل ثمرة من أعمال القديس البابا كيرلس السادس، نورد هنا مقتطفات منكتاب:  "الترهب والخدمة - راهبات دير بنات مريم ببني سويف" الصادر عام 1988 من مطبعة الكاثدرائية بالعباسية بالقاهرة. ويكتب فيه المتنيح المطران الأنبا أثناسيوس عن مرحلة تأسيس دير بنات مريم، فى ص. 11 الآتى:
 "وفى لقاء بعض القادات الأوائل مع المتنيح البابا كيرلس السادس تمّ تحديد الزي واللقب "الأخت" والطريق: رهبنة. رهبنة خادمة، تفتح الطريق أمام بنات الكنيسة المشتاقات لهذه الخدمة."

وأيضا يكتب أحد أفراد القيادات الأوائل فى نفس الكتاب فى ص. 194الآتى: "ولقد بارك المطوّب مثلث الرحمات البابا كيرلس السادس هذا الطريق وشجّعه وأبدا ملاحظاته المباركة فى نظام الحياة الرهبانية والخدمات بخطوات واضحة من البداية. وكان الحبر الجليل الأنبا أثناسيوس مطران كرسى بنى سويف والبهنسا رئيس الدير ومدير الراهبات يستشير قداسته فى كل خطوة."أنظر:
coptic-treasures.com
ولكن حماس تاسونى هبة لخدمة إخوة الرب ألأصاغر ذوى الإحتياجات الخاصة لم يضعف بعد أن سلبها الناس حق الرهبنة، التى كانت تبتغيه، ورضيت بإسم "مكرّسة" حتّى تستطيع خدمة عريسها السماوى الرب يسوع المسيح بكل قلبها فى صورة هؤلاء الملائكة الصغار، المشلولين والمعاقين بإعاقات مختلفة أخرى.

قضت تاسونى هبة  فى الدير 24 سنة  من سنوات حياتها على الأرضالسبعة والأربعون. ومثل معظم الراهبات، بدأت خدمتها فى المطبخ ثم المزرعة والحضانة والمستشفى. ثم إختارت أشقالخدمات، التى يعزف عنها معظم الخدام لظروفها الصعبة، وهى خدمة ذوى الإحتياجات الخاصة. وكان من حظّها أن تتلمذ فى هذا المجال الشاق على يديّ المتنيحة تاسونى جنفياف المتخصصة فى هذه المهنة. وابتداء من سنة 2013 أصبحت تاسونى هبة وحدها مديرة المدرسة، وعدد التلاميذ والتلميذات بها حوالى 130 يتراوح عمرهم بين 3  و60 سنة، وينقسمون الى 4 فئات هم:
1  - القسم الداخلى للأطفال من 8 إلى 12 سنة
2  - الذكور وألإناث المقيمين فى بيت ذوى ألإحتياجات الخاصة الملاصق للمدرسة
3  - بنات وصبيان القسم الخارجى الذين يُحضرهم أتوبيس المدرسة يوميا
4  - الأطفال الذين يُحضرهم ذويهم لجلسات العلاج

وأغلب حالات الإعاقةهى الشلل الدماغى الرباعى، الشلل النصفى، إعاقة فى أحد الأطراف، داوين سندروم، الإعاقة الذهنية بدرجاتها مختلفة، ضمورالمخ، التوحّد،والإعاقة فى التكلّم.

ويقوم بالعلاج عدد من الأطباء المتخصصين الزائرين بانتظام، بالأضافة الى 25 موظفة وموظف دائمين، من متخصصى العلاج الطبيعى والمدرسات والمشرفات، وكذلك الفنيين الذين يدربون التلاميذ والتلميذات على الحرف المختلفة: النجارة وعمل الأيقونات وصناعة الشمع وزخارف الأفراح وصناعة فازات الحدائق من الموزائيك وصناعة تماثيل كبيرة للطيور والحيوانات من الفوم للحدائق، وكذلك والتطريز والطبخ، وخلافه.

         وكانت تاسونى هبة تقضى فى خدمة بناتها واولادها 24 ساعة فى اليوم، إذ أن مسؤولية القسم الداخلى تتطلب وجودها واهتمامها الدائم. وفى أثناء جائحة كرونا، التى عاصرتها عاميّ 2020 و 2021 زاد عبء العمل عليها لأخذ الإحتياطات اللازمة ضد العدوى، رغم مرضها بالقلب. فكافئها الله على تعبها فلم يمرض أحد من تلاميذها والعاملين معها فى الخدمة.

 ومن ضمن إنجازات تاسونى هبة خلال التسع سنوات التى أدارت فيها المدرسة [مدرسة أغصان الزيتون للإحتياجات الخاصة]، نورد هنا بعضها على سبيل المثال، لا الحصر:

1  بناء مبنى جديد من 4 طوابق لداخلية البنات، به مصعد كهربائى. وأقامت بالدور الأرضى حمّام سباحة للعلاج بالماء [أكوا ثيرابى]، وفى الدور الأول قاعة كبيرة للحفلات والأفراح بغرض دمج ذوى الإحتياجات الخاصة فى المجتمع، وتدريبهم على الطبخ والخدمة، بالإضافة إلى إيجاد مصدر دخل إضافى لتغطية العجز فى المصاريف الجارية للمدرسة.

2  ولهذا الغرض أيضا أنشات تاسونى هبة حديقة رائعة بها "نيش" جميل لتصوير العروسان صورة تذكارية. هذا بالإضافة لكون الحديقة مكانا جميلا للترفيه عن التلاميذ ولممارستهم للرياضة.

3  قامت تاسونى ببناء وتاثييث الطابق الرابع للصبيان، الذى بدأ تخطيته قبل نياحة تاسونى جنفياف. وانشأت أيضا كنيسة جميلة جدا فىهذا المبنى.

4  عمل إصلاحات كبيرة فى المبنى الرئيسى بسبب تلف بعضالأسقف بفعل المياة المتسربة، وتجديد كامل للشبكة الكهربائية واصلاح المصعد الكهربائي وتجديد المطبخ. وتم فى المبنيين ادخال التيار الكهربائى ذو الثلاث مراحل، وإدخالالغاز الطبيعى الذى تطلب تغيير أكثر من 50 سخّان مياه.

5  إقامة ورشة لتدريب التلاميذ ذوى الإحتياجات الخاصة على صناعة الفازات والأحواض الموزايك والتماثيل المصنعة من الفوم لبيعها لأصحاب الحدائق. هذا بالإضافة الى تجديد الورش القائمة للنجارة ولصناعة الشمع والإيقونات الخشبية.

6  إقامة  "سينسورى رووم" وتاثيثها باضواء ملونة متلألأة واجهزة العاب مختلفه وأشياء لتنمية حواساللمس والسمع و النظر. وتحت توجيه سيدة متخصصة يقوم الأطفال بتدريب حواس اللمس والسمع والنظر بأنفسهم.

7  عقد حلقلات تدريب دورية لفريق العمل فى إيطار برامج كاريتاس. وتختتم كورسات التدريب بإمتحانات نظرية وعملية، والحصول على شهادات مُعتمدة من كاريتاس إنترناشونال.
8 شراء أتوبيس كبير جديد لنقل التلاميذ من منازلهم الى المدرسة وإرجاعهم الى منازلهم.

هذه مقتطفات قليلة من إنجازات تاسونى هبة تبين مهارتها الفائقة فى الإبتكار والتخطيط والتنفيذ. والجدير بالذكر إنها بذلت مجهودا كبيرا فى جمع التبرعات لدفع تكاليف هذه ألإنجازات والمصاريف الجارية وصرف مرتبات 25 شخصا من العاملين معها، بالإضافة الى الطبيبات الذين يأتن يوميا لعلاج الأطفال. مع العلم أن دير بنات مريم ليس عنده إمكانية للمساعدة المالية، وأن عائلات معظم التلاميذ من الاطفال والكبار لا يستطعون تسديد المصاريف المطلوبة، بل أن من بين الكبار كثيرين قد تركهم أهلهم تماما دون زيارة أو السؤال عنهم. وكانت تاسونى هبة تحصل على تبرعات أيضا من أفراد عائلتها. وعندما سُؤلت قبل إجراء العملية الجراحية لها: " تحبّى يا تاسونى نجيب لك مساعدة فى دفع مصاريف العملية؟" قالت: " لا. شكرا. خلّى المساعدات دى للفقرا والمساكين. هم أولى منى".

وبتعضيد إلهى وصلوات حارة وأمانة كبيرةجعلت تاسونى هبة مدرسة أغصان الزيتون للإحتياحات الخاصة واحدة من أرقى مدارس للجمهورية لهذه الفئة من المواطنين، المهملة تقليديا، وخصوصا فى قرى الصعيد. ويدل على ذلك أن القسم الداخلى به أطفال من محافظات عديدة، وحتى من القاهرة نفسها. والقسم الخارجى به الكثير من الأطفال المسلمين. وهكذا حققت تاسونى هبة وصية السيد المسيح بان تكون ملح الأرض ونور العالم.

لا شك ان رحيلها قد ترك فجوة كبيرة بهذه الخدمة الهامة لذوى الإحتياجات الخاصة. الرب ينيّح نفسها، ويعزّى تلاميذها ويرسل لهم وكيلة أمينة وحكيمة لتعطيمهم طعامهم فى حينه.