سحر الجعارة 
أليس غريباً أننى -هنا- أكتب عنك بعدما كنت أنا المرشحة للموت، وكنت تجلسين جوارى تبكين وأنا أطمئنك أن الميعاد لم يأت بعد!.
احترت كثيراً من أين أبدأ، وقررت أن أتذكر أجمل مشهد مرّ بنا فى شريط الذكريات، حين سألتك المخرجة «إيناس الدغيدى»، فى برنامج «الجريئة»، ألست نادمة على عدم الإنجاب؟ فقلت: «ابنتى سحر فى غرفة التحكم».. أسعدنى ردك وعلمت أنى سأظل «البكرية»، رغم كل الجيل الذى تربى فى حضنك حتى أصبحوا «عرائس وعرساناً».
 
وحدى أتلقى العزاء، وأتذكر أنى الآن بحاجة لك أنت «السند»، أتذكر حين ذهبت لأسجل لك فى «مؤتمر السكان» لسفرك وأنا أحمل بطاقتك.. أتذكر كيف ولدت أخوتنا فى «دمشق» حين تعرضت للتحرش ففتحت ذراعيك لأستقر بصدرك أأبى أن أغادره مهما كبرت واستقللت.. كانت المرة الأولى التى تضمنا غرفة النوم، ثم انتقلنا إلى شقتى الصغيرة وأنا لا أعرف من منا سكنت الأخرى.. وكيف كانت رحلتنا للأهل -كل عيد- بعدما نشترى هدايا الأطفال ونتجه إلى طنطا.
 
هذه الدموع، وكل هذا الحزن والوجع يليق برحيلك: «لم أعد مراهقة سياسياً»، كبرت من قسوة السير على الأشواك حافية، لم أعد أتدلل على أحد ولا أستشير أحداً ولا «أقسم حلمى على اثنين».. هذا الفراغ الهائل كنت تملأينه.
 
لى مع المستشارة «تهانى الجبالى»، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية سابقاً، ذكريات مغزولة بمشاعرنا مثل قطعة «دانتيلا» ناعمة وقوية.. لى معها ضحكات ودموع وليالى ألم وسعادة منقوصة.. وحدى كنت أحتضن لحظات ضعفها.. وكانت -وحدها- تلقننى دروس «النضج السياسى».
كنت قبل 20 عاماً أجلس لأتابعها فى القاعة، ثم فى آخر بلاد الدنيا أجلس إلى جوارها «على المنصة».. لم نتخيل آنذاك أن «توتو» -كما نناديها- سوف تدخل التاريخ كأول قاضية مصرية، فقد كانت بشكل أو بآخر «على يسار السلطة».. كنت أحبو فى عالم الصحافة بينما كانت هى نقابية بارزة وكادراً مهماً فى «الحزب الناصرى».. وكانت تخلع ألقابها ومواجعها فى أحضانى.. وتبكى فرحاً وحباً.
 
فى مجال العمل العام ربَّت المستشارة «تهانى» أجيالاً، وفى مجال عائلتها كانت أماً للجميع وكأنما غلّفت قلبها بأوراق الورد ووزعته على الأحباء.
تستحق المستشارة «تهانى الجبالى» أن يبكى الوطن فى وداعها: إنها أول قاضية فى تاريخ البلاد، تتويجاً لنضال الحركة النسوية باسم «تهانى».. سوف يذكر تاريخ مصر أن عصابة الإخوان قد غيّرت دستور البلاد، ووضعت نصاً دستورياً قلّص عدد قضاة المحكمة الدستورية من 19 إلى 11 عضواً، خصيصاً لعزل المستشارة «تهانى الجبالى».. إنها المرأة التى وقفت ضد «مرسى» منذ اللحظة الأولى لتوليه رئاسة مصر، وهاجمته بشدة عقب الإعلان الدستورى فى 2012 معلنة أنه فقد شرعيته كرئيس للجمهورية.
 
دفعت «الجبالى» منصبها ثمناً لمواقفها، ولا أظنها نادمة، وعادت لصفوف المناضلين.. تتفق أو تختلف مع مواقفها اللاحقة على 30 يونيو.. لكنك لا تملك إلا أن تحترم تاريخها وصلابتها.. وتقدمها إلى خط المواجهة حين تَراجَعَ بعض الرجال.
لقد كانت واحدة من قضاة مصر الذين أصدروا الحكم بسقوط الإخوان.. وجعلوا الحكم مشفوعاً بالنفاذ فى ثورة 30 يونيو.. ثم ابتعدوا عن الساحة لكنهم أقوى من الغياب.
 
دفعت «الجبالى» ضريبة مواقفها، ولم تندم، وعادت لصفوف المناضلين لتعيش فى ظل تاريخها سنواتها الأخيرة.. الإنسانة التى خسرتها الأضواء «رحلت» وتركت لنا نورها لنسير على هديه: نلتقى قريباً يا صاحبة الولاية.