بقلم: عصام شعبان
لم تكن جديدةً رسائل رجل الأعمال المصري، نجيب ساويرس، عن عدم كفاءة المنافسة بين شركات الجيش والقطاع الخاص، والتي أطلقها في نوفمبر/ تشرين الثاني مع وكالة الأنباء الفرنسية. سبق وصرح بها في 2015، ويكرّر مضمونها سنويا مع وسائل إعلام أجنبية، تشكل وزنا في تقدير المواقف دوليا. وغالبا ما كانت أجهزة الدولة تردّ بشكل مبطن وهادئ، عبر وزراء المجموعة الاقتصادية ورئيس الوزراء، مع تسليط الضوء إعلاميا على الدور الاقتصادي لمؤسسات الجيش، بوصفه دورا وطنيا وضروريا، بل ردّ رئيس الدولة خلال انعقاد مؤتمر الشباب الأول (2016)، معربا عن استغرابه من "رفض البعض مشاركة القوات المسلحة بالأنشطة الاقتصادية". بينما جاء الرد الثاني قبل أسبوع بشكل أكثر وضوحا "هناك شركة تشتكي تراجع أعمالها نتاج تدخل الحكومة اقتصاديا بينما بلغ إجمالي استثماراتها 75 مليار جنيه في سبع سنوات". وسبقت ذلك حملة إعلامية ممنهجة ضد ساويرس، مع نشر مواد إعلامية تتناول دور القطاع الخاص فى مشروعات إنشائية ضخمة ضمنها شركة أوراسكوم.

وفي هذا المشهد مبارزة جديدة تحمل دلالات حول شخصية ساويرس وأدواره، وما يمثله من نموذج لرجل أعمال مختلف نسبيا، وكذلك علاقته ببنى السلطة والمجال السياسي ووسائل الإعلام والثقافة، غير نفوذه الاقتصادي، وقدرته على بناء استثمارات وأنشطة في دول أجنبية. ويترجم ذلك في امتلاك قوة التأثير التي يظهرها في لقاءاته مع ممثلي الدول من سفراء ورؤساء حكومات ودول، وربما ذلك جعل الرد هادئا نسبيا، قياسا بردود أفعال تجاه رجال أعمال آخرين، بالإضافة إلى أن ساويرس داعم للنظام، وشريك وليس معارضا في أي حال، وظل مع الخط العام، والتوجهات والسياسات الاقتصادية بما فيها الإصلاح الاقتصادي، وتوسيع دور رجال الأعمال، ولم تُصَب روحه الليبرالية بأذى من أي إجراء يمسّ الحريات، لذا لم تأخذ تصريحاته الا بحسن النيات.

لا يبدو أن العلاقة بين ساويرس والدولة علاقة مواجهة بقدر أنها خلافٌ على تفاصيل، ربما بعضها لم يتّضح، كما أنها ليست تعبيرا عن علاقة فرد صاحب ترسانة اقتصادية ضخمة ودولة فحسب، وربما تشير إلى شكوى مشابهة من رجال أعمال يعبر عنهم، بما يمتلكه من صورة اعتبارية استطاع رسمها، كأحد ممثلي الرأسمالية الكبيرة، قادر على التفاوض باسمها، ورفع مطالبها على اعتبار أنهم حلفاء طبقيون ومساندون لمنظومة الحكم، طالما قدّمت مصالحهم وعبرت عنهم.

دخل المهندس نجيب، أبرز أبناء عائلة ساويرس، مجال السياسة، لتحقيق نفوذ أوسع. وحتى الإعلان عن انزعاجه من بوليسية نظام حسني مبارك، بعد اندلاع الثورة، ارتبط بقناة أون تي في، والتي أسسها عام 2007 واختار لها صوتا ليبراليا يجنح إلى المعارضة، في توقيتٍ أصبح من الممكن أن يعمّق وجوده وصلاته مع مجتمعٍ على حافّة الانفجار. وكانت القناة وللحقيقة تعكس، في أحيان كثيرة، التنوّع السياسي، وقدرة مهنية عالية، وجمعت فريقًا متميزا. لكن القناة لم تخل من مساحة المناورة، واستطاع صاحبها توظيفها آلية داعمة، وأداة تواصل مع النخب والتأثير السياسي. ولم يمنع ذلك ساويرس من التعاون مع نظام مبارك، وإسداء النصائح وتشارك المنافع، بل صنع جزءا هائلا من ثروته في تلك الفترة من قطاع الاتصالات والبناء والتشييد وغيرها.

ومع اندلاع الثورة، رأت نخب عديدة من رجال أعمال وسياسيين أن انفتاح المجال العام يسمح بمساحة أوسع من الوجود والتأثير، وكان ساويرس ضمن لجنة حكماء الثورة أول فبراير/ شباط 2011، بعد مبادرة دعا إليها الناشر إبراهيم المعلم ومحمد حسنين هيكل وآخرون، لتكون طرفا بين الميدان والسلطة، طرفا بين جبهتين على حد تعبير مصطفى كامل السيد، لكن ذلك لا يلغي أن ساويرس أدرك ضرورة ألا تحدُث تطورات تضرّ مصالحه، بل قد يشكل الوضع فيما بعد إطارا لتوسيع النفوذ، ولعب دور سياسي مباشر وبناء حزب يعبر عن أفكاره ومصالح رجال الأعمال، من قبيل علمانية الدولة وحرية رأس المال. وللحقيقة أنه بذل جهدا في ذلك، لكن العمل الحزبي ليس كما إدارة سوق المال. ولا تشفع الخبرة في مجال الإنشاءات والمقاولات في البناء الحزبي، وربما لم يشر إلى تجربته، ومشاركته في تنظيم لقاءت ودعوة الشباب والحوار معهم عن أهمية تأسيس الحزب، والمخاوف من خطرين، أجواء تساعد على انتشار أفكار شيوعية وناصرية عفا عليها الزمن، أو معاداته تيار الاسلام السياسي.

وبشر، في السياق، بأن حزبه (المصريون الأحرار) سيكون حزبا للرأسمالية والليبرالية والعلمانية، واستطاع فعليا أن يجذب كتلا شبابية ورجال أعمال، ويحوز نسبة من برلمان 2015. ولكن ساويرس الذي يحب أن يتحدّث في السياسة كثيرا، فيما نعرف، لم يتعرض لتجربة العمل الحزبي، ولا تأسيس الأحزاب، ولم يقدّر متطلبات ذلك، أو تجارب سابقة ومحاولات السلطة الإجهاض والتفتيت والانقسام لكل تيارٍ يحاول أن يشكل قطبا جاذبا، بغض النظر عن الاتجاه، يساريا أو إسلاميا أو ليبراليا. سُرق الحزب، كما أشار أخيرا، في تدوينه سريعة. وكانت التجربة دالّة على أن مسألة تمثيل رأس المال سياسيا أو التعبير عنه في أطر حزبية مستقلة عن السلطة غير مسموح به، أو على الأقل ستواجه تحدّيات، وتحتاج إلى مناضلين لا إلى رأسمالي يتصوّر أنه سيبني تيارا سياسيا كما تُبنى الشركات، غير أن السياسة في ظل السلطوية مساحة الحرية فيها محدودة، وغالبا مخطّطة ومنضبطة ومقسمة مسبقا ضمن علاقات الزبونية، وليس فيها مساحة للشركاء إلا داخل أطر السلطة السياسية نفسها وبموافقتها، وغير ذلك يكون الخيار الوحيد أن تضع نفسك بديلا. وهذا يعني المواجهة، غير أنه ليس احتمالا قائما مع الشركاء.

ترك ساويرس مربّع السياسة بشكلها الرسمي، وعاد إلى الدعوة إلى حرية رأس المال وامتلاك نفوذ وتأثير يضمن استدامة مصالحه، غير تحقيق الطموح الشخصي وممارسة هواية المغامرة والفلسفة وإصلاح المجتمع. يصل بعض رجال المال بعد فترة من تراكم ثرواتهم إلى هذه الحالة، ولو لم تكن هناك متابعة دقيقة للأحداث، وأحيانا يدفعهم الإعلام إلى هذا. تجده مثلا يصف بايدن بأنه اشتراكي عجوز، مشاركا رجل الأعمال الأميركي فرانك فاندرسلوت تصوّراته، والأخير يستثمر في الأراضى ووسائل الإعلام، ويدعم الجمهوريين، وضمن أغنياء أميركا حسب تصنيفات "فوربس" (هل بين الرجلين تقارب أكبر؟). ويهاجم ساويرس أيضا الأفكار الاشتراكية (هذا طبيعي) والقومية والعروبية، لكنه يستثمر في سورية والجزائر واليمن وكوريا الشمالية، ويقابل زعيم الأخيرة  كيم جونج إيل، تحدّث عن أفكار تحرّرية وليبرالية ويستثمر ويتعاون مع نظم سلطوية وعسكرية. ربما لا يحلّ التناقض سوى أن الرأسمال يستند، وحسب، إلى مصالحه، غير ما توفره تلك الأنظمة من إمكانات وصفقات رابحة. وتراه في السياق يهيل التراب على جمال عبد الناصر، وميراثه ومواقفه، ولم تنتج مرحلة حكمه سوى الديكتاتورية والخراب والهزيمة. هكذا يختصر جزءا من التاريخ المصري والعربي، ولا يرى فيها محاولات بناء وخطط تصنيع وتنمية. هل مستغرب أن يرى في دبي النموذج التنموي والريادة فى العلاقات الخارجية، ويصطفّ معها، ويتبنّى مقولات تحالفها الإقليمي؟

والرجل الذى لا يعجبه الديكتاتور عبد الناصر، لم يُسمع له صوتٌ حين سُرق حزبه، كما قال. ولم نلحظ انحيازا للحرية سوى موقف رافض لقرار نقيب الموسيقيين، هاني شاكر، بمنع إقامة حفلات لمغني المهرجانات. اصطفّ لنصرة حمو بيكا وشطّة وغيرهم، كما رعى نموذج محمد رمضان (نمبر وان)، والذي لم يمنعه بالمناسبة النقيب هاني شاكر من الغناء، وهو لا يختلف كثيرا عن مغنّي المهرجانات، لكنه مستوعَب وضمن السياق. حاولت دبي عمل دعاية للتطبيع من خلاله، لكن الرهان كان خاسرا، كما مساندة ساويرس محمد رمضان الذي لا يفهم علاقته بالاستنارة المشتهاة ودعم المجتمع العلماني الديمقراطي الحرّ، أو شعارات تضافر التنمية والثقافة لتغيير المجتمع، التجارة الرائجة.

بالتأكيد، لسنا أمام رجل أعمال تقليدي، ينطوي تحت أشكال سياسية للسلطة، عضوية الحزب الوطني الديمقراطي في عهد حسني مبارك كآخرين، ثم التدرّج في مستوياته، أو دعمه شكلا سياسيا من دون الانخراط التنظيمي. صحيح لم يتخذ موقفا معارضا، لكنه يحاول ترسيخ صورة الرجل القوي أمام كل سلطةٍ عبر التأثير في أنساق المجتمع، عبر نفوذٍ يصنع وزنا، ومساحاتٍ من الوجود الثقافي والإعلامي والسياسي. يشغل المجال العام، ويحوز المساحة الأكبر بين رجال الأعمال المصريين. واختار دورا ثقافيا، صنع طائفته ومريديه، والمدافعين عنه، والمقدّرين دوره المغاير عن مستثمرين لم تشغلهم الثقافة والفنون والآداب، استثمارا مربحا ينتقل من فضاء الثقافة إلى ساحة الإعلام والسياسة، وحين تنخفض الأسقف يتعمّق الاهتمام بالسينما والغناء.

يشكّل الرجل سلطة رمزية ويعمّق وجوده وتأثيره مجتمعيا، مدركا أن عجلة الاقتصاد ليست كافية للحفاظ على صورة رجل الأعمال، والتي تكون محلّ تشكيك نتاج سنوات من سياسات مبارك، ساد فيها فساد في عمليات الخصخصة وحيازة الأراضي بأبخس الأثمان، وقوانين تسمح لرجال الأعمال بتراكم الأرباح في قطاع البناء والتشييد خصوصا وإسناد لأعمال حكومية وسماح بالاقتراض من البنوك والاستثمار في أموال المودعين لتحقيق مكاسب عبر بوابة المنح والمزايا والعطايا وتحفيز الاستثمار، يهتم ساويرس بصورته بشكل بالغ، ولديه قدرة على التفاعل المستمر، وحيوية ظاهرة، ونشاط لا ينقطع من التدوين على "تويتر"، إلى حفلات، والتخطيط لأنشطة استثمارية جيدة في الوقت نفسه، وقدرة على التواصل السياسي داخل مصر وخارجها. ويأتي دور ساويرس تحت لافتة المسؤولية الاجتماعية دورا آخر يرسم خطوط التماسّ مع مؤسّسات المجتمع المدني. استثمار مهم، إذ يشكل الصورة الاعتبارية لرجل الأعمال المثقف، والذى يزاوج بين التنمية والثقافة وأحلامه بتغيير المجتمع وتحسين أحواله. ومن هنا، يزيد ساويرس رأسماله الاجتماعي، بتكلفةٍ محدودة، إذا ما قيست مع ما يُصرف على حملات إعلانية ودعاية من آخرين.

وينعكس الدور الذي يلعبه ليس لرسم صورة ذهنية مبهرة فحسب، وإنما أيضا ربما استيعاب بعض المثقفين والتحصّن بهم فى ساحة الثقافة، كجوائز فى الشعر والرواية، ومنح للجمعيات الأهلية، ما يجعله يُحرز دورا اجتماعيا وثقافيا بجانب الثقل الاقتصادي، وكلها تتضافر لترسم صورة اعتبارية يُحرزها، وقوة رمزية يحققها، تجعله شريكا للسلطة، ليس بما قدّمه من مواقف داعمة لها، لكن أيضا حصيلة علاقاتٍ مع مؤسساتٍ ونخب، بجانب علاقات خارجيةٍ لا يستهان بها، وتصبح ذات أثر مع تراجع الفعل على المستوى الداخلي. لذا ستنتهي الحملة الإعلامية ضد ساويرس، وستقوى جدران الثقة المتبادلة بين الرجل والنظام، ويرمّم أثر الاختلاف. ولا مانع في جولات التفاوض والحوار أن يهدّد الرجل بوقف أنشطته الاقتصادية في مصر، وهو يدافع عن النظام في تقديم بلاغات، والمطالبة بفتح ملفات ضريبية، أو التحقيق في وقائع مرتبطة بسوق المال أو تعويضات ومستحقات لهيئة السكك الحديدية. .. أخيرا، يُلحظ أن ساويرس الذي يهاجم أفكار اليسار يجنح دوما إلى استقطاب يساريين إلى مؤسساته ويحاول استيعابهم، بل ويصادقهم أحيانا. الأمر لافتٌ وملغزٌ أحيانا.