محرر الأقباط متحدون
قالت الكاتبة فاطمة ناعوت، عبر حسابها الشخصى بالفيسبوك: "كان بحرُ الإسكندرية شاهدًا على استشهاد رجل مسالم يقول: "أحبّوا أعداءَكم، باركوا لاَعنِيكم، أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأَجْلِ الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم.” كان الأبُ الكاهنُ "أرسانيوس وديد" جالسًا على ضفاف البحر مع تلاميذه يعلّمهم درسَ المحبة. وكان البحرُ يُنصت معهم. ولما انفضَّ الجمعُ وذهب التلاميذُ كلٌّ في طريق، تاركين أباهم الروحي جالسًا إلى البحر يُناجيه وحيدًا، جاء مأفونٌ متطرفٌ مريضُ القلب وذبح القسَّ المسالمَ! وفي التحقيقات ادّعى المجرمُ الجنونَ والخللَ العقلي! لكن النيابة العامة أثبتت كذبَه وأكدت سلامة قواه العقلية التي دبّرت ونفذت جريمة القتل العمد. لجأ الإرهابيُّ المجرمُ إلى التبرير "المحفوظ المُعلَّب" الذي تعفن من طول حفظه في علبته الصدئة: “القاتلُ مختلٌّ عقليًّا!” لكنه أغفل أن العقل الجمعي فضلا عن جلال القانون والسادة المحققين العدول، لم يعودوا يعتمدون تلك الحُجّة المستهلكة البلهاء. لأن أي طفلٍ سوف يتساءل: “كيف للمختلّ عقلا أن يميّز المسيحيًّ ليستهدفه دون غيره؟!” وكيف للمختلّ أن يشتري سكينًا ويُحسنَ إخفاءها عن العيون حتى يتمكن من طريدته فيُجهِزَ عليها، ثم يحاولُ الفرار؟! الجريمةُ، أيةُ جريمة فضلا عن أبشع الجرائم وهي القتل مع سبق الإصرار والترصّد، تتطلّب عقلا يقظًا ودُربةً حركية وتوافق بصري عضلي، لا يمتلكها مختلٌّ عقليّ.” رحم اللهُ الشهيدَ الأب "أرسانيوس وديد” وننتظرُ القصاصَ من قاتله.

وتابعت: على واجهة عمارة قديمة في حي عريق، قرأتُ العبارةُ التالية: (لا أعرف خطيئة أعظم من اضطهاد بريء باسم الله.) واضح أن كاتبَ العبارة رفيعُ الثقافة، ليس فقط بسبب الفلسفة العميقة في الجدارية، بل كذلك في انعدام الأخطاء اللغوية فيها. فلم يخلط الكاتبُ بين همزات الوصل وهمزات القطع كما يفعل كثيرون من الناطقين بالعربية، ولم يضعِ الهمزةَ في كلمة "بريء" على الياء كما يفعل كثيرون خطأً، ولا وضع همزة تحت حرف الألف في كلمتي "باسم، اضطهاد" كما يخطئُ كثيرون. ولم ينسَ النقطتين فوق التاء المربوطة في "خطيئة" ولا تحت الياء في "بريء". حتى الشدّة على اللام الوسطى في لفظة الجلالة كتبها رغم استخدامه فرشاة غليظة للكتابة المتعجلة على حائط، كما يفعل الثوارُ حين يرسمون الجداريات على واجهات العمارات في الشوارع والميادين. نادرًا ما تصادفني عبارةٌ عابرة كتبها شخصٌ بخط عشوائي بهذا الانضباط اللغوي الجميل.  صادفتني الصورةُ فنشرتُها على صفحتي مع هذا التعليق: (تشويه حائط … بكلمات عظيمة!!! الحائطُ يُغسل ويُرمَّم ويُعاد طلاؤه، لكن الروحَ إن تشوّهت ماتت، ولا يُجدي معها ترميم أو طلاء.) تلطّخ الحائطُ بالطلاء، لكنه تحول من جدار صامت إلى صوتٍ يصرخ في البرية.  

ليتني أعثر على كاتب العبارة لأقفَ على التجربة الصعبة التي ألهمته هذه الكلمات التي لخّصت مأساة الجنس البشري منذ بدء الخليقة وحتى تستنيرَ الإنسانيةُ بأسرها ونخرج من كهف ظلم الإنسان للإنسان باسم الدين، والتحدث نيابة عن الله حاشاه، من أجل التكبّر والتجبّر على الناس. لا شكَّ أن كاتب الجدارية قد مرّ بمحنة هائلة جعلته يخطُّ وجعَه على جدار بيت صادفه في طريق الألم.

صدقتِ العبارةُ وصدق قائلُها. ليس من خطيئة أبشع من اضطهاد إنسان وظلمه. وتصير البشاعةُ في منتهاها حين تُمارس باسم الله الرحمن الرحيم، حاشاه وتعالى علّوًا كبيرًا، هو المنزّه عن الظلم. يقول اللهُ تعالى في حديثه القُدسي: “يا عبادي إنّي حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أُهدِكم. يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولَّكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في مُلكي شيئا. يا عبادي لو أن أولَّكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد؛ ما نقُص ذلك من مُلكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه؛ ما نقُص ذلك مما عندي إلا كما ينقُصُ المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.” صدق الُله العظيم.

اللهم ندعوكَ أن نرتقيَ ونعلوَ ونتحضّرَ، ونحبَّ بعضُنا بعضًا. “الدينُ لله والوطن لجميع أبناء الوطن.”