جيهان فوزى

 «شيرين أبوعاقلة».. لم تكن فى المكان الخاطئ، ولا فى التوقيت الخاطئ، كانت فى الميدان تقوم بعملها المحفوف بالمخاطر الذى اعتادت عليه، تلبّى نداء الواجب، مثل مئات المرات التى كانت فيها فى موقع الحدث الملتهب فى الأراضى الفلسطينية، انطلقت شيرين إلى مهمتها الأخيرة لتغطية الأحداث الساخنة فى مدينة جنين بالضفة الغربية فى السادسة من صباح يوم الأربعاء، تسبقها آخر رسالة لقناة الجزيرة التى تعمل مراسلة فيها منذ نشأتها «فى الطريق إلى هناك سأوافيكم بالخبر فور اتضاح الصورة»، فأصبحت «شيرين» هى الخبر ولم تتضح الصورة.

 
آخر ما كتبت شيرين أبوعاقلة فجر استشهادها: «فى الطريق إلى جنين، إن أردت أن تبدو قوياً قل: فى الطريق إلى جنين، وإن كنت حزيناً أو تائهاً قل: فى الطريق إلى جنين، وإن أردت صلاة قل: فى الطريق إلى جنين، وإن سألك أحدهم كيف يبدو الطقس اليوم؟ قل: فى الطريق إلى جنين، مطر الله وأحزان يعقوب، والنهاية والبكاء والأعياد والحج وتناقضات الحياة كلها، تجدها فى الطريق إلى جنين». يا الله هل كانت شيرين ترى روحها محلقة على أرض جنين؟ هل استشعر حدسها أنها ستكون الرحلة الأخيرة؟! سقطت شيرين فى لحظة غدر برصاصة قناص جندى صهيونى آثمة لإسكات صوتها الذى طالما كان عالياً مدوياً رغم هدوئه ليصل إلى العالم، خارجاً من أعماق الحقيقة، والواقع الصعب، الذى تنقله إلى كل مكان لتكشف الحقيقة، وتُشهد العالم على ممارسات القمع والوحشية التى يمارسها الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية.
 
شيرين ابنة القدس، عاشت أبية وماتت شهيدة، شيّعها الفلسطينيون فى جنازة عسكرية مهيبة، انطلقت من رام الله فى طريقها إلى مسقط رأسها مدينة القدس، نالت شرف الشهادة، وكانت حديث العالم كله، سياسيين وإعلاميين ودبلوماسيين، فماذا تمنيتِ يا شيرين أفضل من هذا الشرف وتلك الخاتمة؟ لم يجتمع العالم على أحد مثلما اجتمع عليك! فى رسالتك التى أديتها بشرف حاز إعجاب العالم كله، يكفيك فخراً أنك حديث العالم الذى كرّمك دون زيف أو مواربة، حققت النصر لفلسطين وكان استشهادك منارة يتبدى فيها شرف الكلمة، استحققت وسام نجمة القدس باقتدار، وهو أحد أرفع الأوسمة الفلسطينية التى يمنحها رئيس السلطة محمود عباس، الآن ارقدى بسلام، قريرة العين، مرفوعة الرأس، أكملت الرسالة، وسيأتى من بعدك من يكمل الطريق الصعب الذى بدأتِه، وانتهى بهذا التكريم والاحتفاء المهيب، نلت ما تستحقين يا «زهرة الحنون»، يا «شقيقة النعمان» العصية على الانكسار.
 
لم تستطع إسرائيل إخفاء الحقيقة رغم المراوغة المعتادة منها، اعترفت بأن جنودها المجرمين هم من ارتكبوا تلك الجريمة، حتى إن كان هذا الاعتراف مبتسراً، فعاصفة الانتقادات الدولية والعالمية كانت أقوى من مراوغتها لإخفاء ما حدث، موتك كان نقطة البدء لإجلاء الحقيقة وكشف زيف وأكاذيب روايات الاحتلال الإسرائيلى، التى طالما دأب على نسجها وتصديرها للرأى العام العالمى، من منا لا يتمنى أن ينال هذا الشرف، الذى يليق بك، كنت هدفاً للقناصة الإسرائيلية على أمل إسكات صوت الحق، فأصبحت نقطة الانطلاق لإظهار الحق، وتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين، كما هى دون تزييف، وربما أيضاً نقطة البدء لتحويل مسار الدعاية الإسرائيلية الزائفة التى تصدرها للعالم، للنظر إلى الفلسطينيين بعين أكثر إنسانية وموضوعية.
 
هنيئاً لك ما أنت عليه، فأنت ابنة فلسطين العنيدة التى لا يرهبها قمع ولا رصاص القناصة ولا اعتداء ممنهج، كنت حريصة على توثيق جرائم الاحتلال مهما حاول تجميلها، دون كلل ولا استهانة، كنت الشاهدة والشهيدة، وستبقين دائماً وأبداً الشاهد على جرائم الاحتلال، ومنارة الحقيقة، سيظل اسمك محفوراً فى قلب شعبك وقلوب محبيك فى أرجاء المعمورة، ستظل سيرتك عنواناً للشجاعة والفروسية والتضحية، ربما مات جسدك، لكن استشهادك سيكون رسالة البدء لمرحلة لن تكون كسابقتها، حتى لا يكون موتك مجانياً، ولن يكون. «فلترقدى بسلام، يا أيقونة السلام»