القمص أثناسيوس فهمي جورج
كتبَ آباءُ الكنيسة الأُوَلُ، ليس في أعمال الشّهداء وسِيَرِهم وصلواتهم ونفسيّاتهم فقط، لكنّهم كتبوا أيضًا عن المضطهَدين وإجرامهم المسعور الذي مارسوه ضدّ الأبرياء السُّلَماء، الّذين ذبحوهم لا لشيء إلا لأجل هُوِيّتهم وعقيدتهم الايمانيّة.

اليوم تنظر المحكمة في جلسة استشهاد القمّص أرسانيوس وديد، للحُكم على الإرهابيّ المَدعوّ نَهرو، ذلك المجرِم الدّمويّ، صاحب السّجِلّ الأمنيّ الأسود، الذي خَطَّهُ بِسُطور مِن دم بشري ، فبقِيَ في المعتقَل سَبعَ عشرةَ سنة، بعد استمرارِ رجال الأمن في ملاحقتهم له في ديروط وصعيد مصر، حتّى عُوقِبَ على انضمامه إلى كياناتٍ إرهابيّةٍ تهدم أركان المجتمَع المِصريّ، وتفتِك بجنود جيشه وشُرطته، وقُضاته، وشَعبه، بخاصّةٍ الأقباط منهم، فَتكًا على الهُوِيّة، على حسب أماكن عملهم، أو ملابسهم، أو مِهَنِهِم.

هذا الإرهابيّ أتى بعد خروجه من الاعتقال، ليعاود إجرامه في مِنطَقةٍ جديدة بالإسكندريّة، وقد أقرّ بأنّه تابِع للشّيخين المَدعوّين عُمَر عبد الرّحمن وطارقًا الزُّمُر، وذكرَ فيما ذكرَهُ في محضر الشّرطة، بعد القبض عليه على إثر نَحره للقمّص أرسانيوس، بأنّه أزهريّ، ومتمسّك بِفِكر ابن تيميّة؛ وأنّه كان أميرًا للجماعة الإسلاميّة في ديروط.   

لذلك من غير المعقول أن تكون مصر في دولتها الجديدة، تاركةً المجال للّذين يُفخّخون العقول؛ أو أنّها تتساهل على مَن يُبرّئون للإرهابيّين أفعالَهم القبيحة، لأنّ في ذلك حتمًا تواليًا للمذابح الّتي تُرتكَب في حقّ شهداء الجيش والشّرطة والأقباط!

وإنّي لَتُراودني إزاءَ ذلكَ أسئلة عِدّةٌ:  
أين السّجّلّ السّابق لهذا الإرهابيّ القاتل؟ وما الّذي فَعَلَه ذلك الأثِيمُ في أحداث ديروط، الّتي أدّت إلى اعتقاله؟ وكيف ولماذا ترصّد أبانا أرسانيوس ثلاثَ ساعاتٍ متواليةٍ، حتّى خرج من الشّاطئ؟ ولماذا اختصّه بالذّبح علي الهُوِيّة لأجل جِلبابه الكهنوتيّ؟ من أين تيُسِّرت له أداة الجريمة، أعني السّكّين المُدبّب الحادّ المسنون؟ وأين هو ذلك المُستعطي الذي كان معه وأتى به ليستجدي، كي تتمّ مسرحيّة الذّبح، فيتحيّن الفُرصة عندما يلتفت أبونا فينظُر في جيبه، ليأتي بِخِسّةٍ من خَلفه، لينحره نحرًا قطعيًّا عَرضيًّا ثلاثَ سَنتِمَتراتٍ، وعُمقُه ثماني سَنتِمَترات، بِيَدِهِ الأثيمة المُحَنّكة  كمِشرَط الجرّاح، الّتي ذبحته، كحملٍ، في مقتلٍ؛ ثمّ يحاول أيضًا ذبح السّائق عند اللّحاق به، مُلَوّحًا بالسّكّين المُلَطّخ بِالدَمِ البَرِيءِ، في محاولاتٍ متواليةٍ للانقضاض على الضّحايا المرافَقين مِن البنات العُزّل؟ لماذا لم يذهب القاتل والمستعطي مرافِقُه إلى مَفطَر رمضان؟ وما الّذي دعاهُما إلى الانتظار؟ هل اعتبَرَ أنّ إزهاقه لنفسِ كاهنٍ قبطيٍّ بريءٍ هو إفطار صومه؟ ولماذا سجد على الارض وكَبَّرَ بعد نحره؟ أين تدرّب على جراحة النّحر؟ وهل لم يسمع الضّابط الشّاهد ولم يَدرِ بمُلابَسات الحدَث، حتّى أتت  شهادته مُناقِضةً للحقيقة، بل مُزَيِّفَةً لِما جَرَى ومُغَيِّرَةً لِما حَصَل؟  

لكن دماء الشّهداء عندنا هي بذار الإيمان، وهي غالية وثمينة في كنيستها وعند شعبها، لأنّها تتكلّم صارخةً بِرافِعاتِ صَوتٍ تبلُغُ إلى عَنان السّماء، حتّى يقضي لها  الله الدّيّان العادل، ففوق العالي عالٍ، والأعلى منهما يلاحظ؛ فهو ضابط الجميع، والعادل الّذي له القضاء المستقيم، الّذي لا يُعَوَّج.

أبانا أرسانيوس، شهيدَ كنيسة الإسكندريّة، ما كنت أدري منذ طفوليّتك، أنّك ستصير مُكرّمًا ومُكَلّلًا بإكليل الشّهادة. عرفتك شابًّا مُحِبًّا وديعًا مجتهدًا، وكشّافًا في الكشّافة البَرّيّة، في عذراء مُحرّم بِك؛ ثُمّ خادمًا فَتِيًّا في جمعيّة الثّبات القبطيّة في الباب الجديد؛ ثُمّ كاهنًا راعيًا. وفي النّهاية، التحفت بِثَوب الأُرجُوان الّذي للحَمَل المصلوب، وغَسّلت ثيابَك بِنَزف دمك المسكوب على قارعةِ طريقِ كُورنيشِ الإسكندريّة، لترتقي المصاعد العَلَوِيّة بِرَحيلك الدّامي، فتصير شريكًا للميراث السّماويّ.