عاطف بشاي
منذ أكثر من عشرين عامًا، رُشحت الفنانة الراحلة «مريم فخرالدين» لتلعب دورًا مهمًّا فى مسلسل من تأليفى وبطولة «فريد شوقى» و«سناء جميل»، هو «الشباب يعود يومًا»، وقد اشترك فى إنتاجه مع قطاع الإنتاج فى التليفزيون «فريد شوقى».

جاءت «مريم فخر الدين» إلى الاستوديو أثناء التصوير للاتفاق.. وحينما تقدم منها مدير الإنتاج، ومعه العقد لتوقيعه، فوجئنا بها تقول له:

- المسألة أبسط من كده بكتير.. شوفوا إنتم عاوزينى كام يوم.. ونتفق على أجر اليوم.. تدفعوهولى وأنا مروَّحة كل يوم بعد التصوير.. فَغَر مدير الإنتاج فمه فى ذهول غير مصدق ما تقوله، وكان قد ارتدى أفخر ملابسه، وصفّف شعره بعناية، وتعطّر ببرفان ثمين ليكون فى شرف استقبال حسناء الشاشة.. زهرة الرومانسية فى الزمن الجميل.. (والشعر الحرير على الخدود يهفهف).. التى لم تنسَ أن تؤكد له مُردِّدة: «بس بشرط لازم تجيلى قبل التصوير بيوم (تبيّت) علىَّ ومعاك ألف جنيه عربون.. مش جايز حد غيركم يطلبنى أروح معاه؟»،

وقد بررت لى سلوكها هذا موضحة:
- أنا ونجوم جيلى شبعنا نجومية.. ولن نخسر هذه النجومية الآن بسبب دور صغير أو أجر هزيل أو «يومية» مثل الأجراء أو الكومبارس وعمال التراحيل.. لو تعنتنا وفرضنا شروطنا فلن يُلتفت إلينا، ولن نعمل لأن السينما المصرية لا تحترم ولا تقدر إلا النجوم.

ثم أطرقت شاردة، والأسى يسيطر على ملامح وجهها، وهى تتمتم مُردِّدة:

- بس «أحمد مظهر» عنيد.. فارس بقى.

سألتها بدهشة: ما علاقة «أحمد مظهر» بموضوعنا؟!.

قالت إنه من عاداتها اليومية أن تتصل به فى الصباح الباكر للاطمئنان الدائم عليه.. وتبادره: «بونجور يا برنس»، فيرد عليها: «بونجور يا إنجى»، (وهو اسمها فى فيلم «رد قلبى» الذى قاسمته فيه البطولة)، ثم تسأله عن أخباره، فيقول لها فى أسى إن المخرجين والمنتجين أصبحوا يعزفون عن إشراكه فى أفلامهم بسبب كبر سنه خوفًا من رحيله أثناء التصوير، فيتسبب لهم فى مشكلة إنتاجية.. لذلك نصحته بأن يكون واقعيًّا وأن يوافق على العمل باليومية مثلها.. سألتها: وماذا كان رد فعله؟، قالت: أتصور أن سماعة التليفون سقطت من يده.. فقد سمعت صوت ارتطامها، وانقطع الصوت. والحقيقة أنه حتى هذا الحل الذى لجأت إليه «مريم فخر الدين» بالعمل باليومية ليس دائمًا حلًّا مرضيًا.. أو آمنًا.. أذكر أن الفنانة «نعيمة الصغير»، التى كانت تعمل بنفس هذا النظام، اتفقت على القيام بدور أم فى فيلم بمقابل خمسة آلاف جنيه لخمسة أيام تصوير.. وتم خداعها بسبب أنها لا تقرأ ولا تكتب، فلم تنتبه إلى أن المخرج قد قام بتصوير دورها كله فى يوم واحد.. ولم تحصل إلا على ألف جنيه فقط.. كانت قد اشترت بها ملابس للدور.

■ ■ ■

قال لى الراحل الكبير «فريد شوقى»- تعليقًا على الحوار السابق بينى وبين «مريم فخرالدين»- إنه كان عادته أن يجُول بسيارته فى شوارع الأحياء الشعبية، يتأمل الناس فى حركتهم وسلوكهم، يتلمّس فى أحاديثهم معاناتهم ومشاعرهم.. ويختزن لزماتهم فى ذاكرته والتى كان يستلهم منها الكثير من ملامحهم الدرامية لتجسيدها فى أدواره المختلفة.. وكان كثيرًا ما يتوقف شاخصًا بمزيج من الاهتمام والتركيز والحبور، وهو يرى الصبية يلهون بنزال ثنائى جميل، أحدهما «فريد شوقى» والآخر «محمود المليجى»، ويتصارعان، وسط تشجيع صبية الحى حتى ينتصر أحدهما على الآخر، ويتم تتويجه زعيمًا شعبيًّا.. لكنه فى يوم من الأيام صُدم بمفاجأة أن الصبية قد كفوا عن مباراة التحدى بين الخصمين، واستبدلوها بمباراة فى «الكاراتيه»، هذه اللعبة الجديدة فى ذلك الوقت.. فعاد إلى منزله مهمومًا، وسارع بالاتصال بالسيناريست الكبير «عبدالحى أديب»، وصرخ فى التليفون: «فريد شوقى انتهى يا عبدالحى.. العيال لا يلعبون فريد شوقى والمليجى.. تعالى لى حالًا..». هرول إليه «عبدالحى»، فحكى له ما شاهده، وطلب منه سرعة إنقاذه حتى يظل بطلًا مرموقًا محبوبًا من الجماهير العريضة.. فقد أدرك الآن أن زمن الفتوة قد ولّى، وأن عمره قد تجاوز المرحلة السنية التى تقنع المشاهد بمصداقية ما يراه من جبروت وحش الشاشة، الذى يقهر كل الخصوم بقبضة يده، وأنه من الجمود أن تتوقف الحياة عند مرحلة بعينها.. لابد أن يغير جلده.. واستقر على أن ينتقل إلى تجسيد أدوار الأب الطيب الودود الذى ينحاز للخير والعطاء والتضحية.. فكانت سلسلة أفلامه الميلودرامية.. «لا تبكِ يا حبيب العمر» و«مضى قطار العمر» و«بالوالدين إحسانًا».. وجسد فى المسلسلات التليفزيونية أدوارًا لمراحل الشيخوخة، واشترك فى إنتاجها.. واكتسب من خلالها جماهيرية عريضة أنْسَته صورته القديمة.. لقد أنقذ نفسه بتأليف وإنتاج أعمال يظل من خلالها بطلًا.. فاستمر حتى آخر العمر بطلًا مشرقًا على الشاشتين الكبيرة والصغيرة.
نقلا عن المصرى اليوم