أرنست ارجانوس جبران                            
لا أدرى .. وبينما أنا جالس على مقعد أم على أريكة فى أحد زوايا المنزل .. لا أدري .. هذا المنزل والذى أسميه بسجن المنزل تراودنى أفكار الماضى .. ماضى الحرية .. ماضي الزمن الجميل .. ماضي طفولتنا مع أهالينا الذين انتقوا .. ماضي المحبه من جميع الأوجه .. بل المحبه التي ترتكز عليها جميع تصرفاتنا .. وفي رأيي .. والذي أدريه ولا أداريه ووأثق فيه .. انه لا حدود للمحبة وأشكالها .. لأن الله محبه .. بل وهو الذي أمرنا بمحبة الأعداء وبمباركة اللاعنين والإحسان الى المبغضين والصلاه لأجل المسيئين الينا .. آمين ..

هل الإحساس بشعور الماضى الجميل يجعل الإنسان يبكى كالأطفال ..!! .. كثيراً ما تنتابني  موجة الحنين الى ذاك الزمن الجميل من ستينات وسبعينات القرن الماضي .. حيث وُلِدت وترعرعتُ فى قُرَى السودان حيث كان والدي مُعلّماً فى المدارس الأوليه .. نعم ذاك الحنين الى ماضي الأهل .. الحنين الى الأصدقاء القدامى أيام الشباب وأيام الجامعه .. الحنين الى أفلام السينما القديمه .. وهنا قد يتهمنى البعض .. بقولهم .. " هذا لا يجوز " .. ولكننى أقولها بصراحه .. منذ طفولتى .. كنت أعتبر هذه الأفلام هي بمثابة الدروس العَمَليه بالنسبة لي .. نعم " أنا دقة قديمة ورجعت ريمه لعادتها القديمه " .. مع طنط فهيمه الفهِّيمه .. نعم عندما أتذكر والدىَّ الغاليين علىَّ .. كثيراً ما أشعر أننى قصّرت فى حقهما .. بعد أن تزوجتُ ورحلتُ الى عش الزوجية .. قلما كنت أقوم بزيارتهما .. لأننى كنت دائم السَفَر.. وكانت كلمات والدى ترن فى أذنيَّ و الى الآن .. " يا عاطف " .. وحشتنا كتير .. ليه بتتأخر علينا كده .. من فضلك عايزين نشوفك " .. بالمناسبه إسم عاطف هو الإسم المتعارف عليه بالمنزل .. أما ارنست فهو في شهادة الميلاد .. لأن خالي .. كان له صديق عزيز عليه وهو انجليزي الجنسيه .. كان يعمل معه في السودان اسمه ارنست .. حيث قال لوالدتي قبْل أن تضع إبنها البكْر .. " لو كان هذا المولود ولداً أرجو أن تسموه " ارنست " .. وجاء المولود .. وجاء ارنست وهو الذي يكتب لكم هذا المقال .. والعجيب .. لم يظهر هذا الإسم إلا هنا .. عندما وطئت قدماي بلاد المهجر .. حيث أصبح الإسم المتعارف عليه الآن هنا فى بلاد الخواجات .. ونعود الى موضوعنا .. والآن و بعدما آتيت الى بلاد المهجر.. مازال الماضي يلازمني في كل مكان وفي كل زمان عندما أكون بمفردي .. ذاك الماضي .. ماضي  راديو فيلبس .. الذي يعمل بحجارة البطاريه .. حتى صوت المذيع الذي مازال يصيح في داخلي " صوت العرب من القاهره " .. ثم برنامج " دقت ساعة العمل " .. " كلمتين وبس " .. نشيد " دقت ساعة العمل للموسيقار محمد عبد الوهاب " .. مسلسلات .. " شنبو فى المصيده " .. " لن أعيش فى جلباب أبي " .. " انت اللي قتلت بابايا " .. الخ .. الخ .. ثم جئت أنا وزوجتي وأبنائي الى هنا  .. الى أمريكا .. وكانت مشيئة الله أن نستقر في مدينة هيوستن بولاية تكساس في أواخر ثمانينات القرن الماضي حيث إلتقينا بالمحبين .. ومنهم الذين انتقلوا إلا أن ذكراهم مازالت باقيه فى الأذهان وفي القلوب الى الدرجة التي لا يمكن نسيان كلماتهم وصفاتهم التي يتميزون بها .. حتى أماكن جلوسهم فى الكنيسه لا ولن أنساها .. الى الدرجة التي تجعلني أخالهم جالسين في نفس المكان الذي تركوه .. ثم إقتربَ هذا الماضي الى عهد ما قبل جائحة الكورونا عام 2019 .. ماضى الكنيسة المفتوحة الأبواب .. فى أيام الآحاد ثم قداسات وسط الأسبوع جعلتنى أتأمل فى محبتنا الرأسيه مع الله رب الأرباب وملك الملوك .. المحبه الرأسيه ونحن نتمتع ونستمتع بالقداسات والألحان الشجيه والتى مهما أردنا أن نصفها لا نستطيع وصف هذا الشعور ونحن نستمتع بالصلاه التى يرددها الكاهن ثم الشماس ثم الشعب الكل يصلي الى الله بكل خشوع وتضرع في محبة راسيه .. ونحن نردد مردات الشعب ونحن رافعين أيادينا الى فوق .. الى الرب .. وأتمنى أن تكون تلك الأيادي المرفوعه الى أعلى .. تكون أياد بيضاء .. سبحان الله .. هذه الكلمات الموضوعه فى الخولاجي المقدس وأيضاً ألحان القدَّاس .. كل شيئ موضوع  بالروح القدس .. وكأنما هناك محادثات مشتركه مع الله .. الكاهن ثم الشماس والشعب .. الثلاث وحدات فى حديث متواصل ومتناغم مع  رب الأرباب .. هكذا تكون الصلة الرأسيه مع الله .. ثم يأتي دور المحبة الأفقيه .. عندما يقول الشماس " قبلوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسه " .. والتي ذُكِرت فى الإنجيل في رسالة بطرس الأولى والأصحاح الخامس :" سلِّموا بعضُكم على بعضٍ بقبلة المحبه ".. كم تكون هاتان المحبتان فى جمال لا يوصف .. حيث تتلاقى المحبتان الرأسيه و الأفقيه عند الزاويه القائمه بدون أي لف أو دوران .. وهكذا يحدث اندماج  المحبتين الرأسيه والأفقيه .. ". هاتان المحبتان تتكاملا عند القداس وأيضاً بعد الصلاة .. والتي تتضح بصورة عملية بعد إكمال دور السيد المسيح الذي هو حجر الزاويه .. وهنا ليتنا نتأمل فى حجر الزاويه الذي ذُكِرَ ثلاث مرات فى العهد القديم وسبع مرات فى العهد الجديد .. هو هو السيد المسيح  .. ولو تأملنا في المحبة الرأسيه والأفقيه وعمل السيد المسيح فى تلك الزاويه ومحبته التي لا حدود لها .. حيث امتداد المحبة الرأسية يصاحبها إمتداد آخر الى أسفل .. ثم المحبه الأفقيه التي تمتد الى الجهة اليمنى ثم الى الجهة اليسرى .. لتكوِّن علامة ( + ) .. حيث تتزايد المحبه .. بعدها يستمر الإمتداد الرأسي والأفقي ليتكوَّن الصليب .. وهنا يتكون ويتجسد برهان المحبة بعمل الفداء على عود الصليب .. نعم هذه الآلام التي إحتملها السيد المسيح على عود الصليب كلها من أجلنا نحن .. في إمتداد المحبتين الرأسيه والأفقيه .. وكما جاء فى رسالة بطرس الأولى والأصحاح الرابع: " ولكن قبل كل شيء، لتكنْ محبتكم بعضكم لبعض شديده " .. وأود هنا تكرار شرح المحبة الأفقيه من الناحيه العمليه .. حيث نذهب الى قاعة خاصه بالأغابي حيث نلتقي بأناس قد لا نتذكر متى كانت رُؤياهم آخر مره  .. بل قد نرى أشخاصاً لأول مره وهذه فرصه للتعرف عليهم .. لا أدري .. أردت أن أغتنم فرصة كتابة هذا المقال عن المحبه .. لأوضح إحساسي بكلمة المحبه فى مختلف المجالات .. وكما يقول الكتاب المقدس .. " الله محبه " .. فمحبة الله تتضح في جميع المجالات .. فاسمحوا لي أن أتأمل في بعض مجالات المحبه التي حبانا بها الله .. الله المُحب للإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله .. نعم شكل الإنسان وكم وكم كنت أود أن أكتب تأملاتي فى خلقة الإنسان من ناحية الوجه ثم الأعضاء البشريه .. وجه الإنسان .. سبحان الله .. على الرغم من وجود ملايين الملايين من البشر .. إلا أن كل إنسان له وجه خاص به يميزه عن الآخرين .. ثم بصمة الأصابع أيضاً خصصها الرب لتكون مختلفة من شخص لآخر بل أنها تحمل هوية هذا الشخص ولا آحد سواه .. سبحان الله .. اسمحوا لي أن أتوقف هنا .. خوفاً على وقتكم الثمين .. ولنا لقاء آخر بإذن الرب إن شاء الرب وعشنا .. ولكن قبل الرحيل، أرجو أن أقتبس هذه الآيات من رسالة بولس الرسول الى أهل كورنثوس والأصحاح الثالث عشر والتي تعبر عن ماهية المحبه المكتوبة بالروح القدس .. آمين ..

" إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكه ولكن ليس لي محبه، فقد صرتُ نُحاساً يطن أو صنجاً يرن. وإن كانت لي نبوَّه، وأعلمُ جميعَ الأسرارِ وكلَّ عِلْمٍ، وإن كان لي كلُّ الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبه، فلست شيئاً. وإن أطعمتُ كلَّ أموالي، وإن سلمتُ جسدي حتى احترقَ، ولكن ليس لي محبه، فلا أنتفع شيئاً. المحبه تتأنى وترفق. المحبه لا تحسد. المحبه لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبِّح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبه لا تسقط أبداً" آمين .. آمين .. ثم آمين ..

   ما أجمل هذه الكلمات التي تصف المحبه بطريقة يعجز أمامها قلم أي كاتب ماهر .. لهذا لم أجد كلماتٍ تشرح موقف هاتين المحبتين .. الرأسيه والأفقيه واللتين تتلاقا عند الصليب .. لأن الصليب هو أصل المحبه .. والمصلوب هو السيد المسيح الذي أحبنا الى درجة الفداء .. والموت من أجلنا نحن الخطاه .. ليتنا نتعلم المحبه .. بل ليتنا نحفظ الكلمات أعلاه عن ظهر قلب .. وإلا أصبحنا نحاساً يطن وصنجاً يرن .. لنتعلم معنى المحبه الحقيقيه .. التي تحتمل كل شيء .. يارب علمنا المحبه العامله .. النابعه من القلب .. آمين .. آمين .. ثم آمين ..