د. سامح فوزى
نظمت المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالتعاون مع الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان – الأسبوع الماضي- مؤتمرًا عن الحق فى الخصوصية، شارك فيه عدد من الحقوقيين من مصر والدول العربية. وكم كان مٌبهجًا أن يُعقد هذا اللقاء فى قلب القاهرة، دلالة على أن أبوابها مفتوحة أمام المثقفين والحقوقيين العرب من ناحية، وأن النقاش حول حقوق الإنسان يستوعب الشراكة بين منظمة مجتمع مدنى حقوقية ولجنة حكومية حقوقية، وهو تحول نوعى مهم من ناحية أخرى. ونتذكر أن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التى أعلنها رئيس الجمهورية فى 11 سبتمبر الماضى، تمثل توجها للدولة المصرية، وتحولا أرادته لنفسها، وتتوالى الجهود لوضعها موضع التنفيذ. ومن أهم التوجهات الأساسية بها هو الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدنى فى سبيل رفع الوعى، وتعميق ثقافة حقوق الإنسان على جميع المستويات.

يٌعد الحق فى الخصوصية، موضوع المؤتمر، محوريًا فى المجتمع المعاصر، خاصة فى سياق التقدم التكنولوجى، والذكاء الاصطناعى، حيث بات هناك شعور متصاعد فى العقدين الأخيرين بأن المرء يفقد خصوصيته من جراء الانغماس فى الفضاء الالكترونى، الذى لم يعد يسيرًا الابتعاد عنه.

من ناحية أولى هناك مواقع الكترونية تقدم خدمات مجانية للأشخاص، أشهرها جوجل وفيس بوك، ويُقبل الناس عليها لما يحصلون عليه من مزايا التواصل دون دفع أى مقابل، ولكن لا يدرى كثير من المستخدمين أنه لا توجد وجبات مجانية على الفضاء الالكترونى، وأن هذه الشركات تجنى أرباحًا طائلة من جراء بيع ما يتوافر لديها من بيانات شخصية عن المستخدمين لشركات الدعاية والإعلان.

من ناحية ثانية، لم تعد لدى الشخص المعاصر القدرة على الانفراد بذاته، أو الحفاظ على مجاله الخاص الذى يوجد فيه، نظرا لكثافة انتشار كاميرات المراقبة فى كل مكان، وتقدم تكنولوجيا التتبع المكانى للأشخاص، ورغم أهمية ذلك فى الحفاظ على حياة وممتلكات الأفراد، فإنه من ناحية أخرى يشعر المرء بضيق الحيز الخاص المتاح له. أكثر من ذلك، فإن تقدم تكنولوجيا الاتصالات قلص من انفراد الشخص بنفسه فى مسكنه الخاص، حيث إن كثيرا من المبتكرات التكنولوجية مثل الكمبيوتر أو الهاتف المحمول صارت «تكنولوجيا مؤنسنة»، إن صح التعبير، موجودة فى نفس الغرفة مع الشخص، يتفاعل معها، وتجعله فى تواصل مع آخرين غير موجودين فى نفس الحيز المكانى الذى يوجد فيه. من ناحية ثالثة، يرتبط الحق فى الخصوصية بحماية نفسية المجتمع، حيث إن البيانات التى يقدمها الأفراد أنفسهم قبل استخدام العديد من التطبيقات على الهاتف المحمول توفر قاعدة بيانات يمكن استخدمها فى انتاج نماذج عامة لسلوك الأفراد، حسب متغيرات مثل السن أو النوع أو المعتقد أو الطبقة الاجتماعية، يمكن توظيفها فى تغيير سلوك الناس، أو أفكارهم، أو تفضيلاتهم، أو مشاعرهم، واللعب على أوتار المخاوف وعوامل التوتر لأغراض سياسية أو تجارية. على سبيل المثال يمكن الإفادة من الاتجاهات النفسية أو السلوكية فى المجتمع فى الترويج التجارى عبر شركات مثل امازون، أو نيتفليكس، وغيرهما، والتى تؤدى بشكل غير مباشر، وعلى نحو تدريجى، إلى سلب استقلالية الأفراد فى اتخاذ القرارات اليومية الخاصة بهم، ودفعهم إلى المضى فى الطريق الاستهلاكى الذى تبغيه الشركات التجارية. وقد ينتقل تغيير السلوك الجمعى من استهلاك السلع إلى قبول البضائع السياسية سواء فى شكل تغيير مفاهيم الجماهير تجاه أنظمة سياسية، أو توجيهها فى مسارات انتخابية معينة، وتلعب شركات الدعاية السياسية، ومراكز قياس الرأى العام، وغيرها أدوارا شديدة الأهمية فى التأثير على السلوك السياسى للمواطنين خاصة فى المناسبات الانتخابية. هنا يصبح التأكيد على الحق فى الخصوصية حماية للمؤسسات الديمقراطية، وممارسة الأفراد حقهم فى الاختيار السياسى، والتنافس الحر بين القوى والتيارات السياسية دون محاولة التأثير عليهم أو تزييف وعيهم.

من ناحية رابعة، إن كان العديد من الباحثين ينحون باللائمة على التكنولوجيا الحديثة فى سلب خصوصية الأفراد، فإن هناك اتجاها بحثيا حاليا فى مجال دراسات التنمية يعمل على الإفادة من التطورات التكنولوجية فى توسيع ارجاء الحق فى الخصوصية، بعيدا عن الاستغلال السياسى أو التوجيه الاستهلاكى، مثل استخدام التواصل الالكترونى فى تحديد احتياجات المجتمعات، وطرق تقديم الخدمة للأفراد، وأن يصبح ما يقدمونه من بيانات وسيلة لتطوير حياتهم، بدلا من إعادة تدويرها واستخدامها فى غير مصالحهم.
نقلا عن الأهرام