كتب - محرر الاقباط متحدون
اهدى قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، تمثال مريم مفكّكة العقد، الى الشعوب الاصلية اثناء  زيارته الرسولية إلى كندا.

وفي إطار زيارته الرسوليّة إلى كندا شارك قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من بعد ظهر الثلاثاء في التوقيت المحلّي في مسيرة حجٍّ إلى بحيرة القديسة حنّة حيث ترأس احتفال ليتورجية الكلمة مع الشعب وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها :

حسَنٌ أن أكون ههنا، حاجًّا معكم وبينكم. في هذه الأيام، واليوم بشكل خاص، تأثّرت بصوت الطبول التي رافقتني في كلّ مكان ذهبت إليه. بدا لي قرع الطبول وكأنّه يردّد صدى نبضات القلوب الكثيرة التي خفقت على مرّ القرون بالقرب من هذه المياه، قلوب الحجاج الكثيرين الذين ساروا بخطوات منتظمة معًا لكي يصلوا إلى "بحيرة الله" هذه! هنا يمكننا حقًا أن نسمع نبض قلوب شعب حاجّ، لأجيال انطلقت في مسيرة نحو الرّبّ لكي تختبر عمله الشافيّ. كم من القلوب جاءت إلى هنا راغبة ومتلهفّة، تُثقِّلها أعباء الحياة، ووجدت في هذه المياه التعزية والقوّة للمضي قُدُمًا! ولكن هنا، إذ تغمرنا الخليقة، هناك نبض قلب آخر يمكننا أن نسمعه، إنّه نبض قلب أمِّنا الأرض. وهكذا كما أن نبضات قلوب الأطفال، منذ الحشا، تنسجم مع نبضات قلوب الأمهات، كذلك، لكي ننمو ككائنات بشريّة، نحتاج إلى أن نضبط إيقاعات الحياة لتكون منسجمة مع إيقاعات الخليقة التي تمنحنا الحياة. لنعد اليوم إلى ينابيع حياتنا: إلى الله، وإلى الوالدين، وفي يوم القدّيسة حنّة وفي بيتها، لنعد إلى الأجداد، الذين أحيّيهم بمحبّة كبيرة.

 إذ نقلتنا هذه النبضات الحيوية، ونحن الآن هنا، في صمت، نتأمّل في مياه هذه البحيرة. إنَّ الصّمت يساعدنا لكي نعود أيضًا إلى ينابيع الإيمان. في الواقع، يسمح لنا الصّمت بأن نحُجَّ بالرّوح وصولاً إلى الأماكن المقدّسة: فنتخيّل يسوع، الذي أتمَّ جزءًا كبيرًا من رسالته على ضفاف بحيرة، بحيرة الجليل. هناك اختار الرّسل ودعاهم، وأعلن التّطويبات، وروى أكبر عدد من الأمثال، وأتمّ الآيات والشفاءات. لقد كانت تلك البحيرة تُمثِّل قلب "جَليل الأمم"، منطقة في الضواحي، للتجارة، حيث كانت تلتقي شعوب عديدة، وتلوِّن المنطقة بتقاليد وعبادات مختلفة. لقد كانت المكان الأبعد جغرافيًا وثقافيًا عن الطّهارة الدينيّة التي تركزّت في أورشليم، بالقرب من الهيكل. وبالتالي يمكننا أن نتصوّر تلك البحيرة، التي تُسمّى بحيرة الجليل، كمُركَّزٍ للاختلافات: على ضفافها اجتمع الصّيادون وجباة الضرائب، وقادة الجيش والعبيد، والفريسيّون والفقراء، رّجال ونساء من مختلف الأصول والخلفيات الاجتماعيّة. هناك، بالتّحديد هناك، بشّر يسوع بملكوت الله: لم يبشّر أناسًا متديّنين مختارين، بل بشّر شعوبًا مختلفة كانت تتوافد من أماكن مختلفة مثل اليوم، وبشّر الجميع في مشهد طبيعيّ مثل هذا. لقد اختار الله تلك البيئة المتعدّدة الأوجه وغير المتجانسة ليعلن شيئًا ثوريًا للعالم: "حوِّل خدك الآخر، وأَحِبُّوا أَعداءَكم، وعيشوا مثل الإخوة لتكونوا أبناء الله، وأبيكم الذي يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المطر على الأَبرارِ والفُجَّار". وهكذا أصبحت تلك البحيرة، "خليط الاختلافات"، مقرًّا لإعلان الأخوّة الفريد، ومقرًّا لثورة بلا قتلى وجرحى، ثورة الحبّ. وهنا، على ضفاف هذه البحيرة، يعيدنا صوت الطبول الذي يعبر القرون ويوحّد أناسًا مختلفين إلى ذلك الزمن؛ ويذكّرنا أنّ الأخوّة تكون حقيقية إذا وحّدت البعيدين، وأنّ رسالة الوَحدة التي ترسلها السّماء إلى الأرض لا تخشى الاختلافات، وتدعونا إلى الشّركة، والانطلاق مجدّدًا معًا، لأنّنا جميعًا حجّاج في مسيرة.

 أيّها الإخوة والأخوات، حجّاج هذه المياه، ماذا يمكننا أن نستقي منها؟ إنَّ كلمة الله تساعدنا لكي نكتشف ذلك. لقد كرّر النبي حزقيال مرتَين أنّ المياه التي تتدفّق من الهيكل، من أجل شعب الله، "تمنح الحياة" و"تشفي". تمنح الحياة. أفكّر في الجدات الحاضرات معنا هنا: أيتها الجدات العزيزات، إنَّ قلوبكن هي الينابيع التي انبعث منها ماء الإيمان الحيّ، الذي تروون به عطش الأبناء والأحفاد. لقد أثّر فيَّ دور النساء الحيويّ في جماعات السّكان الأصليّين: إذ تحتلُّ النساء مكانة بارزة لكونهن ينابيع مباركة ليس فقط للحياة الماديّة وإنما أيضًا للحياة الروحيّة. وبالتفكير في جدّاتكم، أفكّر أيضًا في جدتي. منها تلقيت أوّل إعلان للإيمان وتعلّمت أنّ الإنجيل ينتقل بهذه الطريقة، من خلال حنان العنايّة وحكمة الحياة. نادرًا ما يولد الإيمان من قراءة كتاب وحدنا في غرفة الاستقبال، ولكنّه ينتشر في جو عائليّ، وينتقل بلغة الأمهات، وبنشيد الجدات العذب باللغة العاميّة. يسعدني أن أرى الكثير من الأجداد ووالدي الأجداد هنا. أشكركم وأودّ أن أقول لكلّ مَن لديه مُسنٌّ في البيت وفي العائلة: لديكم كنز! حافظوا على ينبوع الحياة داخل جدران بيوتكم: اعتنوا به، كأثمن إرثٍ لكم عليكم أن تحبّوه وتحافظوا عليه.

 لقد كان النبّي يقول إنّ المياه، بالإضافة إلى أنّها تمنح الحياة، هي تشفي. وهذا الجانب يعيدنا إلى ضفاف بحيرة الجليل، حيث شفى يسوع كثيرًا مِنَ المَرْضى المُصابينَ بِمُخَتَلِفِ العِلَل. وهناك، وعِندَ المَساء بَعدَ غُروبِ الشَّمْس، كان النَّاسُ يَحمِلونَ إِلَيه جَميعَ المَرْضى. لنتخيّل هذه الليلة أنفسنا حول البحيرة مع يسوع، عندما كان يقترب، وينحني، بصبر وشفقة وحنان، ويشفي العديد من مرضى الجسد والرّوح: الممسوسين، والبرص، والمشلولين، والعميان، وإنما أيضًا أشخاص مرهقين، ومحبَطين، تائهين ومجروحين. لقد جاء يسوع ولا يزال يأتي لكي يعتني بنا ولكي يعزيّ ويشفيّ بشريّتنا الوحيدة والمنهكة. ويوجّه إلى الجميع، ولنا أيضًا، الدعوة عينها: "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم". أو كما في المقطع الذي سمعناه هذا المساء: "إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ". أيّها الإخوة والأخوات، نحتاج جميعنا إلى شفاء يسوع، طبيب النفوس والأجساد. يا ربّ، مثل الجموع على ضفاف بحيرة الجليل، التي لم تخشَ أن تصرخ إليك حاجاتها، نأتي إليك نحن أيضًا هذا المساء، مع الألم الذي في داخلنا. نحمل إليك جفافنا وتعبنا، وصدمات العنف التي عانى منها إخوتنا وأخواتنا من السّكان الأصليّين. في هذا المكان المبارك، حيث يسود الوئام والسّلام، نقدّم لك عدم انسجام تاريخنا، وآثار الاستعمار الرّهيبة، والألم الذي لا يُمحى للعديد من العائلات والأجداد والأطفال. ساعدنا لكي نشفي جراحنا. نحن نَعلم أنّ هذا الأمر يتطلّب التزامًا وعناية وأعمالًا ملموسة من جانبنا؛ ولكنّنا نَعلم أيضًا أنّه لا يمكننا أن نقوم بذلك وحدنا. نحن نوكل أنفسنا إليك وإلى شفاعة والدتك وجدتك.

 لأنّ الأمهات والجدات يساعدن في شفاء جراح القلب. خلال مأساة الغزو والاحتلال، كانت العذراء مريّم، سيّدة غوادالوبي، هي التي نقلت الإيمان الصّحيح إلى السّكان الأصليّين، فتكلّمت بلغتهم ولبست لِبسَهم، بدون عنف أو فرض. وبعد فترة وجيزة، مع وصول المطابع، نُشرت أولى القواعد النحويّة والتعلّيم المسيحيّ بلغات السّكان الأصليّين. ما أكبر الخير الذي قام به المرسلون بهذا المعنى لكي يحافظوا على لغات وثقافات السّكان الأصليّين في أجزاء كثيرة من العالم! في كندا، هذا "الانثقاف الوالدي" قد تمَّ من خلال عمل القدّيسة حنّة، ووحّد بين جمال تقاليد الشعوب الأصليّة والإيمان، وصاغها بحكمة الجدة، التي هي أُمٌّ مرتين. الكنيسة هي أيضًا امرأة وأمّ. في الواقع، لم يكن هناك لحظة في تاريخها لم ينتقل فيها الإيمان بلغة الأمّ، على يد الأمّهات والجدات. إنَّ جزء من الإرث الأليم الذي نواجهه اليوم ينبع من منع جدات السّكان الأصليّين من أن ينقلنَ الإيمان بلغتهنَّ وثقافتهنَّ. هذه الخسارة هي بالتأكيد مأساة، لكن حضوركنَّ هنا هو شهادة على المرونة الانطلاقة الجديدة، وعلى حجّ نحو الشّفاء، وعلى انفتاح القلب على الله الذي يشفيّ كوننا جماعة. الآن نحن جميعًا، ككنيسة، نحتاج إلى الشّفاء: نحتاج إلى أن نُشفى من تجارب الانغلاق على أنفسنا، واختيار الدفاع عن المؤسّسة بدلًا من البحث عن الحقيقة، وتفضيل مظاهر السلطة الدنيويّة على الخدمة الإنجيليّة. لنساعد بعضنا بعضًا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، على تقديم إسهامنا لكي نبني بعون الله كنيسة أم بحسب رغبته، قادرة على أن تعانق كلّ ابن وابنة لها؛ وكنيسة منفتحة على الجميع وتكلِّم الجميع، لا تعارض أحدًا، بل تلتقي مع الجميع.

 كانت جموع بحيرة الجليل التي احتشدت حول يسوع تتكوّن أساسًا من أناس عاديّين وبسطاء، كانوا يحملون إليه احتياجاتهم الخاصة وجراحهم. مثلهم، إن أردنا أن نعتني ونشفي حياة جماعاتنا، لا يمكننا إلا أن نبدأ بالفقراء والأكثر تهميشًا. غالبًا ما نسمح بأن تقودنا مصالح القلّة الناجحة، فيما أنّه علينا أن ننظر أكثر إلى الضواحي ونصغي إلى صرخة الأخيرين؛ ونعرف كيف نصغي إلى ألم الذين وفي مدننا المزدحمة والمجرّدة من هويّتها يصرخون بصمت: "لا تتركونا وحدنا!". إنّها صرخة المسنين  الذين يواجهون خطر الموت وحدهم في البيت، أو الذين تركوا في إحدى بيوت المسنّين. إنّها صرخة المرضى المتضايقين الذين بدلاً من المحبّة يقدَّم لهم الموت. إنّها الصرخة المختنقة للشّباب والشّابات الذين نسائلهم أكثر من ما نصغي إليهم، والذين فوّضوا حريتهم إلى هاتف محمول، بينما في الشوارع عينها يتجوّل أقرانهم تاهين، يخدّرهم بعض التسلية، وهم فريسة لأنواع الإدمان التي تملأهم بالحزن والقلق، وأصبحوا غير قادرين على أن يثقوا بأنفسهم، ويحبّوا أنفسهم كما هم، وجمال الحياة المتوفرة لهم. لا تتركونا وحدنا: إنها صرخة الذين يريدون عالمًا أفضل ولكنهم لا يعرفون من أين يبدأون. إنَّ يسوع، الذي يشفينا ويعزّينا بماء روحه الحيّ، يطلب منّا نحنا أيضًا في إنجيل هذا المساء، أن تتدفّق المياه الحيّة من قلوب الذين يؤمنون. ونحن هل نعرف كيف نروي عطش إخوتنا وأخواتنا؟ وفيما نواصل في طلب التعزية من الله، هل نعرف أيضًا كيف نعزي الآخرين؟ غالبًا ما نتحرّر من العديد من الأعباء الداخليّة، على سبيل المثال من شعورنا أنّنا غير محبوبين ومقدَّرين، من خلال البدء بمحبّة الآخرين مجانًا. في وحدتنا وقلقنا، يدفعنا يسوع لكي نخرج ونعطي ونحب. لذا أسأل نفسي: ماذا أفعل لمن يحتاج إليّ؟ بالنظر إلى السّكان الأصليّين، والتفكير في قصصهم والألم الذي عانوا منه، ماذا أفعل من أجلهم؟ هل أصغي بقليل من الفضول الدنيويّ، وأتشكّك بسبب ما حدث في الماضي، أم أفعل شيئًا ملموسًا لهم؟ هل أصلّي من أجلهم، وألتقي بهم، وأقرأ، وأسمح لقصصهم أن تلمسني؟ وبالنظر إلى نفسي، إن وجدت نفسي أتألّم، فهل أصغي إلى يسوع الذي يريد أن يخرجني بعيدًا عن قلقي، ويدعوني لكي أنطلق من جديد، وأمضي قُدُمًا، وأحبّ؟ أحيانًا، تكون الطريقة اللطيفة لكي نساعد شخص آخر هي ألا نعطيه ما يطلبه على الفور، وإنما أن نرافقه وندعوه لكي يحب ويجعل من نفسه عطيّة للآخرين. لأنّه بهذه الطّريقة، ومن خلال الخير الذي يمكنه أن يفعله للآخرين، سيكتشف أنهار المياه الحيّة فيه، وسيكتشف أنّه كنز فريد وثمين.

 أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء من السّكان الأصليّون، جئت إليكم حاجًّا لأقول لكم أيضًا كم أنّكم ثمينون بالنسبة لي وللكنيسة. أرغب في أن تكون الكنيسة مشبوكة بكم، كما تُشبك وتتّحد خيوط اللفافة الملّونة، التي يرتديها الكثيرون منكم. ليساعدنا الرّبّ يسوع على المضي قُدُمًا في عمليّة الشّفاء، نحو مستقبل أكثر شفاء وتجدد على الدوام. أعتقد أنّ هذه هي أيضًا رغبة جداتكم وأجدادكم. ليبارك جدَّا يسوع، القدّيسان يواكيم وحنّة، مسيرتنا.