فاطمة ناعوت
حواراتُ الناس على وسائل التواصل الاجتماعى صارت مخيفةً ومروّعة!، حال الاختلاف فى الرأى، غابت عباراتٌ مثل: «اسمح لى أن أختلف معك، لدىَّ رأى مغاير، هل أُحيلك إلى كتاب كذا الذى يقول رأيًا مختلفًا؟..» إلخ، واحتشدت مقاطع الفيديو والبوستات وخاناتُ التعليقات بالسباب والشتائم والتكفير والخوض فى الأعراض والتهديد!. كيف وصلنا إلى هذا؟!. والمدهش ليس فى كيف وصلنا إلى هذا، بل أن هذا (الهذا) لم يعد يدهشنا أو يزعجنا، تمامًا مثلما تعودنا على مشهد أكوام القمامة فى شوارعنا ولم تعد تُدهشنا أو تجرح عيوننا، بعدما كانت ورقةٌ صغيرة ملقاة فى الطريق تُدهش المارّة قبل ١٠٠ عام، حين حصلت القاهرةُ عام ١٩٢٥ على وسام: «أنظف عواصم حوض البحر المتوسط وأوروبا». تصوروا!.

صديقى الدكتور «كمال الإخناوى»، الأستاذ بالجامعة الأمريكية، أحد خبراء تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية ثانية للناطقين بالإنجليزية، أرسل إلىَّ رسالة يُذكرنى فيها بمقال قديم لى عنوانه: «كيف سمحنا بأن نسقط؟»، وكان المقال يناقش كيف تتأثر لغة الحوار بالبيئة المحيطة. حكيتُ عن الشاعر «علىّ بن الجهم»، الذى جاء إلى بغداد، وكتب قصيدة فى مديح الخليفة، قائلًا: «أنتَ كالكلبِ فى حفاظِكَ للودِّ/ وكالتيْسِ فى قِراعِ الخُطوبْ/ أنتَ كالدلوِ، لا عَدِمناكَ دلوًا/ من كبارِ الدِّلا كثير الذنوبْ». والذنوب هنا هى كثرة سيلان الماء وغزارته. اندهش السامعون واستنكروا فظاظة المفردات: »كلب- دلو- تيس«، وكيف تتفق ومديح؟!، لكن الخليفة العباسى المثقف »أبوالفضل جعفر المتوكل« لم ينزعج لأنه يعرف أن »ابن الجهم« شاعرٌ صحراوى لم يرَ من الحضر الكثيرَ؛ وطبيعى أن يستلهم مفرداته من معجم البداوة، فأدرك مقصده الطيب، على خشونة لفظه التى فطرتها قساوةُ البادية وجدب الصحراء التى لم يرَ سواها، فأمر له بدار جميلة تُطلّ على شاطئ نهر دجلة، بها حديقة غنّاء حاشدةٌ بالعصافير والزهور والثمر، وأغدق عليه بطيّب الطعام والملبس ورغد الحياة. وبعد إقامة الشاعر شهورًا ستّة فى الحضر ومخالطة أدبائه وشعرائه، استدعاه الخليفةُ إلى البلاط، وطلب منه أن يلقى بعضَ الشعر، فقال »ابن الجهم«: (عيونُ المَها بين الرصافةِ والجسرِ/ جَلَبنَ الهوى من حيثُ أدرى ولا أدرى/ أعدنَ لى الشوقَ القديمَ ولم أكنْ/ سَلوتُ ولكن زِدنَ جمرًا على جمرِ/ سَلِمنَ وأسلَمنَ القلوبَ كأنّما/ تُشَكُّ بأطرافِ المثقّفةِ السُّمرِ/ وقُلن لنا نحنُ الأهِلَّةُ إنما/ تُضىءُ لمَن يسرى بليلٍ ولا تقرى/ فلا بَذلَ إلا ما تَزَوَّدَ ناظرٌ/ ولا وَصلَ إلا بالخيالِ الذى يَسرى».

هكذا أدرك الحاكمُ الفَطِنُ أن «اللسان» ابنٌ أصيلٌ لما ترى العينانُ وتسمعُ الأذنان، فإن جلبتَ توأمين أنشأتَ أحدَهما فى بيئة حوشية رثّة، وترعرع الآخرُ فى بيئة متحضّرة راقية، ثم التقيا بعد عشرين عامًا، ستدركُ أن الفارق بين معجمى الشقيقين هو الفارقُ ذاتُه بين البيئتين اللتين نشآ فيهما كلاهما.

ربما هذا يقدّمُ لنا التفسير عن اختلاف معاجمنا الراهنة عن معاجم آبائنا وأجدادنا الذين تربّت آذانُهم على أم كلثوم وعبدالوهاب، وعقولُهم على طه حسين والإمام محمد عبده، وعيونُهم على أنيق الثياب نظيفِ الأمكنة، فيما عشنا نحن الزمن الصعب الذى تعجُّ فيه الآفاتُ الصوتية والفكرية والبصرية.

نحن أبناءُ بيئتنا. وألسننا أصداءٌ لما نسمع، وعيوننا مرايا لما نشاهد، وأفكارنا مرايا لما يقتحم أرواحَنا من أناقة وجمال، أو من دمامة وقبح.

لهذا لا تبرحُ قلبى مقولةُ أفلاطون: «علّموا أولادَكم الفنون، ثم أغلقوا السجون»، ذاك أن الفنونَ تُهذِّبُ الروحَ وتمنع الجريمةَ. لهذا اقترحتُ أن يأتوا بالمجرمين والمتطرفين والمتحرشين والخارجين عن القانون إلى دُور الأوبرا ليسمعوا الموسيقى ويشاهدوا الباليه حتى تتنقّى أرواحُهم وتتهذّب سلوكاتُهم وتترقى معاجمهم. سخرَ منى مَن سخر، واعتبرونى أعيشُ فى برج عاجى لا يمسُّ الأرضَ الموبوءة بالشرور. ربما. لكن فكرتى حدثت، ونجحت. صنعها المايسترو المصرى الجميل «نادر عباسى». هذّب أرواحَ مجرمين عُتاة فى أوروبا حينما زارهم بكامل فريق الأوركسترا الفيلهارمونى فى سجن بوميت بمارسيليا، بدعوة من الحكومة الفرنسية، وعزفوا أمام ١٥٠٠ سجين كونشرتات عذبة بمناسبة أعياد الربيع، منها ڤالسات: الدانوب الأزرق وكسارة البندق وبحيرة البجع وكارمن‏. بعدها بعامين كان المايسترو المصرى يتجول ليلًا فى شوارع مارسيليا، فاستوقفه رجلٌ على موتوسيكل، وقال له: «ألَا تعرفنى؟، أنا أحد سجناء (بوميت). بفضلك أنا الآن مواطنٌ صالح. أحرص على زيارة الأوبرا أسبوعيًّا مع أطفالى».

سألتُه أن يكرر التجربة فى مصر، واستطعتُ أن أقتنص منه وعدًا بزيارة السجون والمدارس ودُور الأيتام. أرجو أن تتبنى الحكومة المصرية تلك الزيارات للمدارس والمشافى والسجون حتى يرتقى معجمُنا من جديد.
نقلا عن المصرى اليوم