ألفى كامل شنّد
عندما كنت صغيراً، كنت اتعلل لأمي حتى لا تبتعد عنى عند النوم ليلاَ مدعياً الخوف من الشيطان؛ فكانت تقول لي وهى تعي كذبى: ما شيطان إلا بنى آدم، في حين كانت تنصحني جدتي بألا أسمع كلام الشيطان أو أتعلم الاشياء الشريرة من الآخرين، ومع مرور السنين، أيقنت ما كانت تقوله أمي، ما شيطان إلا بنى آدم.  

ولا يزال بعض الناس في أحاديثهم ينسبون أخطاءهم، وفشلهم، وسوء حالهم إلى الشيطان الذي أعمى بصيرتهم، ولا يمل رجال الدين من الحديث عن الشيطان كمصدر كل خلل في منظومة الحياة ...  وان عداءه لنا نحن البشر، لن يتوقف لأن الله لا يقبل توبته.

 ما حقيقة هذا الشيطان الذي يشغل حياة الناس، واهتمام رجال الدين والفلاسفة والادباء والفنانين، بل والبشرية بأسرها منذ بدء الحياة على الأرض.
تذكر المراجع التاريخية، أنه مع بداية الوعي البشري،‏ وجد الانسان نفسه في مواجهة قوى لم يستطِع السيطرة عليها،‏ مارست تأثيرا مؤذيا او هدّاماً؛ فسعى البشر الاولون فطريا الى معرفة الاسباب،‏ وفسَّروا قوى الطبيعة وتجلِّياتها الاخرى على انها منبثقة من كائنات عاقلة.‏

تبنت الديانات الوثنية القديمة والأديان الوضعية تفسيرها وشرح أسبابها، ونسبت الخير منها إلى قوى فائقة سميت إله الخير ونسبت الشر إلى قوى فائقة أخرى سميت إله الشر، وبين هذين الالهين صراع، تناولته الفلسفات القديمة، وحاكت حوله الاساطير، وظلت زمنا داخل معطف الميثولوجيا. وتناولتها بعد ذلك الفلسفة المسيحية وأغلب رموز الفلسفة الحديثة تحت تأثير المسيحية.

 ذهب الفلاسفة المسيحيون وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي " رينيه ديكارت" الذى أدخل الشك في كل شيء بما في ذلك وجود نفسه ووجود العالم الخارجي إلا وجود الشيطان، حيث أنتهى الشك عنده إلى افترض وجود الشيطان، وإن الشيطان حقيقي وليد حرية الإنسان، لولا حرية الإنسان، لما كان الشيطان وهذا ما يميِّز الكائن الإنساني عن بقية أشكال الحياة على الأرض.

في حين يرى الفيلسوف الالماني "هيجل" أن الشر ينبع من طبيعة الإنسان، لكنه لم ينف أنه نتاج الخطيئة الأصلية، وفى ذلك يقول: إن الإنسان في مبدئه يتمتع بالبراءة الأولى. لكنه فقد تلك البراءة وخرج عن طبيعته، واختلف مع الله، نتيجة التدخل الشيطاني، وهذا هو معنى الوقوع في الشر، ومعاناة الألم والشقاء في العالم.

وهناك من الفلاسفة من نظر للشر نظرة مختلفة عن النظرة المسيحية. فيقول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز" إن الشيطان وليد الجهل وما يصحبه من خوف، تماماً كما يحدث في حالة الظلام الدّامس! فلمّا كان المرء لا يرى أمامه شيئاً، فإنه يلحق بخياله (قوة) غير مرئية أو (فاعلاً) غير مرئي. ويظن أنها حقيقية، ويرفض الفيلسوف الألماني   "كانط"، فكرة الخطيئة الأصلية التي يؤمن بها المسيحيون. ويرى أن الميول البشرية هي التي تسمح بالانحراف نحو الشر، وقد تكون فطرية طبيعية بيد أنها غالبا ما تكون مكتسبة بسبب خطأ يقع فيه الإنسان.

والميول عند الفيلسوف "كانط"، تتنوع إلى ثلاثة أنواع، هي ضعف العزيمة أو القلب، وهو ما عبر عنه بولس الرسول  بدقة بقوله "لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ" (رو 7: 19(، والنجاسة أو عدم النقاء، وتحدث عندما لا يكتفي الفعل بالقاعدة الخلقية، ويحتاج إلى دوافع أخري”، وأخيرا الفساد الذي ينشأ عندما تميل الإرادة إلى تفضيل دوافع دنيا على الدوافع الخلقية.والفساد الذي ينشأ عندما تميل الإرادة إلى تفضيل دوافع دنيا على الدوافع الخلقية.

ويضيف، أن هذه الميول تأخذ مجراها نتيجة سوء استعمال الإرادة الحرة، عندما لا يسلك الإنسان وفقا للواجب، وإنما بدافع من بعض المغريات، وهذا يعني أن الشر لا ينشأ عن وجود إرادة شريرة كامنة أنطولوجية في الطبيعية الإنسانية، وإنما عن ضعف هذه الطبيعة عندما لا تفصل بين بعض الدوافع وبعضها الآخر على أساس القاعدة الخلقية.

ويرفض “كانط" القول بإن الخطيئة دخلت العالم بواسطة الخطيئة الاصلية، وأنها منتقلة بالوراثة من الآباء إلى الأبناء.

أما من منظور علم النفس، حسب عالم النفس "سيجموند فرويد" في كتابه (إبليس فى التحليل النفسي) فإن الأبالسة فى نظر علم النفس، رغبات شريرة، مستهجنة تنبع من دوافع مكبوحة مكبوتة. أما الصراع بين الله والشيطان ما هو إلا الصراع بين مثاليات الإنسان الأخلاقية وبين رغباته المحظورة والمكبوتة، ومن الطبيعي أن الإنسان كلما تقدم بالعمر يتدين أكثر لأن رغباته ضعفت بتقدم العمر، وما قصة تحدي الشيطان لله ومخالفة أوامره في حقيقتها سوى قصة رمزية تعني تحدي الرغبة والشهوة لمثاليات.

 هذا الانكار لوجود الشيطان ظل في محيط الفلسفة وعلم النفس.

الشيطان في الاناجيل:
لا يذكر الشيطان بشكل كبير في الاسفار المقدسة لليهودية، حيث كان التركيز الأكبر على العهد الذى قطعه الله مع شعبه وتمهيد الطريق لمجيء المخلص المنتظر، أما الاناجيل الأربعة والرسائل الرسولية، لكونها البشارة بالخلاص، فتذكر الشيطان بشكل أكبر مما يظهر في العهد القديم، ونجد ذلك في أقوال للسيد المسيح وفى القصص والأمثال التي كان تحمل في ثناياها رسائل ودلالات ومعان مجازية يتوخى منها ضرورة فهم طبيعة الشر وخطورته. وما المعجزات التي ذكرتها الاناجيل الا دلائل ورموز على الشفاء من الخطيئة.

ومما يدل على أن الشيطان ليس إلا رمز تعبيري عن الشر أنه نعت في الاناجيل بأسماء عدة: "روح الضعف"، "الشرير"، رئيس هذا العالم"، "بعل زبول"، وقيل عن "بعل زبول" هو في الأصل اسم إله فلسطيني. كما وصفت الخطيئة أنها عدم فعل الخير، وأوصى المسيح أتباعه بنهج الكمال والقداسة.

والشيطان كما جاء في القرآ ن الكريم في سورة الكهف {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} الكهف 50 . وجاء في حديث نبوى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما مِن بَني آدم مَوْلودٌ إلا يَمَسُّه الشيطانُ حِين يُولَد، فيَسْتَهِلُّ صارخا مِن مَسِّ الشيطان، غير مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة: {وإنِّي أُعِيذُها بك وذُرِّيَّتَها من الشَّيطان الرَّجِيمِ «.  (صحيح متفق عليه).

 وجاء في الشرح بموسوعة الأحاديث النبوية: كل مولود يولد يطعنه الشيطان في جنبه، فيرفع صوته بالبكاء ويصرخ عقب الولادة مباشرة بسبب ذلك الطعن الذي طعنه الشيطان، إلا مريم وابنها عيسى -عليهما السلام-، فإن الله عصمهما منه عند الولادة.  (1)

إلا أن تغيراً حدث في مفهوم الشيطان مع نزول الأديان الإبراهيمية وبشكل أكبر في الديانة المسيحية. ففي الأديان الكتابية تحول الشيطان من مكانته كإله في الأديان القديمة إلى مجرد ملاك. أو كبير ملائكة في أحسن الأحوال والمقربين من الله. وطرد وابعد عن الحضرة الإلهية بسبب الكبرياء والغرور. وهو لا يمتلك أي إرادة خاصة به على فعل الشر. إنما كل أفعاله بسماح من الله. واختبار منه الله يختبر به تقوى بنى آدم، كما في حالة إبراهيم و أيوب .وقد عبر أيوب عن هذه الحقيقة عندما قال (أنقبل الخير من عند الله و لا نقبل الشر).

 هذا السماح من الله للشيطان باختبار المؤمن جعل عدداً من الباحثين في الأديان يذهبون إلى رأيين أثنين حول علاقة الله بالشيطان، الأول يقول إن الشيطان ربما يكون هو الرب متنكراً، والثاني يقول إن الشيطان هو يد الله اليسرى المسيرة من قبله أو أن الشياطين هي مخلوقات ربانية غير كاملة. (2)

أما التغير الأهم الذي طرأ على مفهوم الشيطان في الأديان الكتابية، فهو أن غضب الله على الشيطان لسبب ما، ترتب عليه عداوة الشيطان للإنسان والانتقام من الله في خليقته ممثلة بالإنسان. وتحول الصراع بينه وبين الرب من حالة الصراع المباشر بين الاثنين إلى الصراع غير المباشر. وهنا أصبح الإنسان هو ميدان الصراع.

ومما يؤكد رمزية الشيطان في الكتب المقدسة في الأديان الابراهمية الثلاثة ان قدرة الشيطان مقيدة، ولا يستطيع ان يجبر الانسان على المعصية كما ان غواية الشيطان لا تعفي الانسان من تحمل وزر ه.  

تعامل الكنيسة مع الشيطان:
طوال التاريخ المبكر للمسيحية، تجاهلت الكنيسة الحديث عن الشيطان، ولم يطرح أمره في المجامع الكنسية كإطار عقائدي.. وكذلك قضية "ممارسات السحر" تعاملت معها بتساهل شديد.

كانت حقيقة وجود الشيطان تُعدّ أمراً مسلماً به ومقبول مِن كل المؤمنين والمفكرين المسيحيين؛ وكان حقيقة ثابته في وديعة الإيمان وفي داخل التعليم الرسمي في سائر الكنائس المسيحية.

وفى القرون الوسطى، استحوذت إشكالية الشيطان على الثقافة المسيحية واهتمام الناس. بعد ما أصدر مجمع لاتران الرابع سنة ١٢١٥ ميلادية، اعلاناً رسمياً للإيمان. وجاء في القانون ١‏:‏ «خلق الله ابليس والشياطين الآخرين صالحين بطبيعتهم،‏ لكن افعالهم الخاصة جعلتهم اشرارا».‏ ويضيف، «أن هؤلاء يسعون جاهدين الى اغواء الجنس البشري».‏ وعززت العبارة الأخيرة سيطرتها الروحية والزمنية.

وبحلول القرن الثامن عشر، ودخول عصر التنوير سعى فلاسفة ولاهوتيو التنوير إلى ازالة صورة ابليس من الفكر المسيحي باعتبارها ثمرة خيال الاساطير التي سادت في الأزمنة الغابرة. لكن لم تجد كتاباتهم صدى لدى الكنيسة الرسمية. بل كان رد فعل معاكس، تمثل  في إعادة تأكيد إيمانها بوجود الشيطان ابليس في المجمع الڤاتيكاني الاول (‏١٨٦٩-‏١٨٧٠)‏،‏ كما كرّرت بتحفُّظ ذكر هذا المعتقد في المجمع الڤاتيكاني الثاني (‏١٩٦٢-‏١٩٦٥)‏.‏ حيث تضمنت  وثائقه ثامنة عشر عبارة حول حقيقة وعمل الشيطان في أفعاله الدنيئة ضد العالم والبشر والمسيحيين المؤمنين، مؤكداً بذالك صحة الإيمان الكاثوليكيّ التقليديّ.

بعد المجمع الفاتيكانى الثانى (1062-1065). وانطلاقا من روح المجمع ذاته. وبالتحديد في السنوات 1968- 1970. طرح بعض اللاهوتيين والفلاسفة والمفكرين الكاثوليك بشكل عام هذا السؤال: هل الشيطان موجود بالفعل أم ذكره مجرد أسلوب أدبي في الكتاب المقدس عن الشرّ؟ هل هو مجرد رمز أو تشخيص اصطلاحي أخترعه الإنسان ليشير إلى الشرّ الموجود في العالم؟ ويعدّ الألماني "هاغ" أول لاهوتي أنكر بشكل جازم وجود الشيطان، في عام 1970، وذلك في كتابه "تصفيّة الحساب مع الشيطان". ومِن بعده تبعه لاهوتيون وفلاسفة أخرون.

وفي السنوات الاخيرة،‏ يأخذ اللاهوتيون الكاثوليك حذرهم في تناول ذكر الشيطان، متأرجحين بين العقيدة الكاثوليكية الرسمية وبين الاعتبار أن لغة الكتاب المقدس المتعلقة بالشيطان هي ‹تصويرية› للتعبير عن واقع ونطاق الشر في الكون، لا يجب فهمها حرفيا.

ومازالت الكنيسة الكاثوليكية تلتزم بصورة رسمية بوجود ملائكة وشياطين.‏
كذلك لم يفوت البابوات الذبن تقلدوا رئاسة الكنيسة الكاثوليكية في العقود الأخيرة، أي مناسبة لتأكيد إيمان الكنيسة الكاثوليكية بحقيقة وجود الشيطان، وموقف البابا فرنسيس لا يختلف عمن سبقوه، وعبر عن ذلك في عظة في كنيسة في بيت القديسة مرثا،  في عام 2013، قائلا :" الشيطان ليس أسطورة ، لكنه شخص حقيقي. . يجب ان نتفاعل معه، كما تفاعل معه المسيح بكلمة الله".

أيضاً يتفق الإنجيليون مع المذهب الأرثوذكسي في أن الشيطان كائن حقيقي. بينما يرفض بعض المسيحيين اليوم عزو الشر في العالم الى ابليس.‏
فى الختام، السؤال الذي يطرح نفسه: هل ثمة علاقة جوهرية بين عقيدة فداء المسيح وفكرة وجود الشيطان.  ربما نجد الإجابة عند اللاهوتى الكاثوليكى الأب رينزو لافاتوري، أحده أكثر المتفقهين في قضية الملائكة والشياطين، إذ يقول إنه بصلب المسيح وموته، تحقق الفداء الكامل، وسحق الشيطان .وباتت لهزيمة الشر حلّ وعلاج بواسطة معطيات الخلاص : سرّ المعمودية والتوبة، والقربان المقدس، التي تمحو الخطايا وتهب  الحياة الأبدية، أي بالاتحاد  مع عمل المسيح الخلاصيّ.

المراجع:
(1)    سامي سعيد الأحمد، الأصول الأولى لأفكار الشر والشيطان، بغداد 1970، طبعة أولى ،ص106
(2)    أخرجه أحمد في مسنده ج (5)، ص (178)، والنسائي في الصغرى ج (8)، ص (275)
(3)    ا لأب رينزو لافاتوري، هل الشيطان موجود؟، مقابلة ، ترجمة أشرف ناجح