قصة قصيرة أحمد الخميسي
وقف على المحطة ينتظر الأتوبيس الساعة حوالي الخامسة مساء. راح يفتح رئتيه على وسعهما يسحب الهواء عميقا ويطرده مغمضا عينيه. منذ أن خرج إلى المعاش لم يعد يغادر البيت إلا نادرا، على مشارف السبعين لم تعد قواه تسعفه على السير طويلا، فأمسى ركوب الأتوبيس ذهابا إلى وسط البلد وإيابا نزهة بحد ذاتها، يركب وينزل عند نهاية الخط. يتمشي ليغترف الحياة من الأصوات الضاجة وألوان الملابس وهزات رؤوس العابرين، ثم يرجع إلى بيته.

     لاح من بعيد ميني باص وتوقف أمامه. مط رقبته. جال ببصره داخل السيارة ليرى إن كان ثمت مقعد شاغر قرب نافذة. قبض على عمود الباب بكفه وشد جسمه صاعدا. ما إن تحرك الأتوبيس حتى أخذ الهواء المنعش يهب على وجهه. سرح ببصره في لافتات المحلات وومض اللون الأحمر بخلفية السيارات، وعندما ارتقى الأتوبيس كوبري، غمرته متعة غريبة من النظر إلى البيوت من أعلى. عند اشارة مرور تمهل الأتوبيس قليلا  فقفز اليه شاب ترنح ثم استعاد توازنه، دبت في صدره الهواجس: " أتراني أطفأت شعلة الموقد قبل أن أغادر البيت؟"، وقال لنفسه: " نعم أظن أني أطفأتها". كان نسيان كل شيء مسئولية زوجته إلى أن توفيت فتعين عليه أن يعتمد على نفسه في نسيان كل ما كانت تنساه، إن كان موعد سداد فاتورة الكهرباء قد حل أم فاته؟ هل ترك التلفزيون شغالا ونام أم أغلقه؟. لاحظ ابنه حالته فدعاه للعيش معه لكنه لم يتحمل الاقامة لأكثر من أسبوع، فقد عاملته زوجة ابنه على أنه صبي لطيف إذا عمل بنصائحها ينال قطعة حلوى مكافأة على شطارته.

طاش وجدانه بين مئات الشذرات من الذكريات، إلى أن لمح عن يساره رصيف محل اصطفت عليه دراجات طويلة وقصيرة حزمت عجلاتها بشرائط ملونة. قفزت إلى ذاكرته من مكان بعيد تلك اللحظة التي تمنى فيها أن يقتني دراجة، كان في الثامنة من عمره ، حين خرج ذات يوم إلى الشارع وهناك شاهد الولد حسين يتأرجح فوق دراجة وعم صبحي أبوه يلهث قابضا على مقعد الدراجة من الخلف وهو يصيح:    " بدل. بدل"، والولد يصلصل بجرس صغير وقد توهج وجهه من الفرح. في الليل كان كلما أوشك على النعاس يفيق ويرى نفسه طائرا في الريح ويحس أنه ساخن من حرارة الأمل. لم تخفت رغبته في الدراجة حتى بعد أن كبر والتحق بعمل في شركة، لكنه تردد حينذاك :" موظف محترم على دراجة؟ لا.. لآ".    
   
بلغ الأتوبيس نهاية الخط نزل متأنيا درجة فدرجة. وقف في الشارع وهو يثني ركبتيه ويفردهما عدة مرات. ارتقى الرصيف وبدأ يتمشى. أحس الفرح من الحركة حوله و الصيحات العالية، وفجأة نشبت في صدره الهواجس:"هل أطفأ نور الصالة؟ "، ثم قفزت أمامه صورة دراجة أعجبته من رصيف المحل. حين خرج إلى المعاش قال لنفسه: " ألن يندهش الناس من رجل مسن على دراجة كأنه يتصابى؟". ضحك في سره.

     ظل نحو عشرين دقيقة يروح ويجيء إلى أن شعر بالبرد فقال لنفسه:" آن أوان الرجوع الى البيت". مضى نحو المحطة وهو يهمس لنفسه: " غدا الاثنين، سأشتري الدراجة التي رأيتها". هز رأسه بانتباه قلق:" غدا الأحد أم الاثنين؟ اليوم الأحد، إذن غدا الاثنينطك". قطع الشارع إلى الجهة الأخرى ليركب عائدا. اتسعت ضحكته في سره: " غدا ستكون لديه تلك الطويلة العفية يقودها في الشارع، يراه أصحاب محلات البقالة وعمالها الذين يعرفونه، وزينهم في محل الحلاقة، وربما يخرج حسين من الفرن البلدي ملوحا له بانشراح : " ألف مبروك يا عم زكي". هل يعقل هذا؟ سيتقدم بها إلى الأمام، قد يرتبك في البداية خجلا، لكنه سيتغلب على اضطرابه ويتجه بها إلى الميدان الواسع بينما تتشقق من حوله جدران الطفولة عن أمنيات موغلة في الماضي، وهو يواصل التقدم، يختلس النظر إلى المارة ليعرف أن كان يثير دهشتهم؟. يتقدم للأمام، يضرب البدال مرة بقدم الطفولة، بقوة ونزق، ومرة بقدم الشيخوخة، بضعف وتراخ، يتقدم متأرجحا ما بين زمنين يقطع ما تبقى من طريق. غدا . الاثنين؟ نعم.

 صفحة مرايا الابداع _ الدستور _ د. صفاء النجار. الأحد 7 اغسطس 2022