نبيل المقدس 
زي النهارد 12/25 من سنين طويلة مضت .. تذكرتها عندما كان مكان جلستنا علي عتبة بيتها في الشتاء لوجود الشمس فيها تقريبا طول النهار .. اما في الصيف فقد كانت جلستنا امام بيتي مستغلين الظل و دكة عم يوسف البقال حتي يجيء الساعة 5 ليفتح المحل ونترك له الدكه .. ما كُناش لوحدنا كان يصاحبنا اولاد وبنات من عمرنا أو اقل مننا .. كل اثنين أو ثلاثة مشغولين مع بعضهم إما في لعبة الحجلة أو البلي او الدردشة . جميعنا أصلا من حارة واحدة تحوي 4 منازل .. كانت الحارة بالنسبة لنا هي النادي الذي كنا نقضي فيه اوقات الأجازات . 
 
كانت " عفاف " تميل جدا أن تجلس معي علي عتبة المنزل , وانا أيضا نفس الشعور ... كانت جلستنا فيها براءة الصبا و سجاذة الأطفال .. وربما لأننا من الصعيد فقد كانت الشهامة تتحلي فينا كأولاد وبنات أيضا. لكن انا وعفاف كنا في بعض الأحيان نجد أنفسنا عفويا نسبح في عالم غريب لا نعرفه .. كل ما علينا فعله هو أن نترك عيوننا تنظر لبعضهم البعض مدة طويلة ثم نفوق بعدها ولا نعرف من أين تأتي هذه القوة لكي تجعلنا أن ننظر لبعضنا البعض هذه الفترة .. لكن ببساطة شديدة في إحدي المرات عندما فُوقت من نظرتها ليّ , وجدتُ نفسي أقول لها يااااه يا عفاف .. تتصوري عينيكي زرقا جميلة ... ولأول مرة أحسست أني عريانا أمامها من الخزي .. فبدأتُ أقوم من مكاني من كسوفي لكن فوجئت بلمسة يادوب من أطراف صوابعها تحف صوابعي
 
فنظرت إليّ قائلة :
" طول عمرها عيني زرقا .. دلوقتي بس إللي فهمت أنها زرقا .. وكمان هتقوم تروح بدري وتسيبني " .؟؟!! ... لعلمك وانا كمان لاحظت حاجة فيك لأول مرة أعرفها لما قمت من جنبي .. إنك فعلا راجل ما أخفش منه " .. كل ما ننظر لبعض احس بالأمان معاك .. ثم بدأت عيونها الزرقاء تدمعن .. وقتها تذكرت وفاة والدها منذ 5 سنوات وأصبحت هي وأمها تحت رحمة أخوها الأكبر منها بحوالي 4 سنوات تقريبا .
 
فقد كان يدرس الثانوية العامة من منازلهم , وأنا وهي كنا في الإعدادية .. كان دائما يخلق المشاكسات مع والدته من أجل المصروف وكان لا يرحم ابدا .. أخلاقياته بدأت تفسد وكان يسبب دائما مشاكل لها لوالدتها .
 
ولكي أخرجها من هذه الحالة التي بدأت بمشاعر لأول مرة نحس بها وإنقلبت إلي التفكير في أحوال أخيها , سألتها : انت ومامتك خرجتم بعد الظهر " امبارح " علي فين ؟؟ إنتفضت وقالت لي :
 
" انا نسيت اقولك فعلا .. انت عارف انا في المدرسة الإيطالية بنات , والراهبات تحتفل كل سنة بالكريسماس .. يا سلام يا رؤوف كان نفسي تكون معايا تتفرج علي شجرة الميلاد .. جميلة .. تيجي نعمل شجرة ميلاد ونحطها في الحارة ونحتفل حواليها بدل ما أحنا قاعدين كده من غير ما نحس بالعيد , خلينا نِفرًح وْنفَرّح إللي معانا كمان " قلت لها صدقيني يا عفاف فكرة .. تعالي نقعد ونفكر نجيب الشجرة من فين ؟ .. وبعد لحظة نطقنا في لسان واحد وبصوت عال يدل علي الإنتصار " من جنينة الخواجا نور " 
 
جنينة الخواجا نور هي فيلا بجوار حارتنا و تحيط بها جنينة خاصة بمهندس الكهرباء حيث تُعتبر مكان سكن له تلاصق محطة الكهرباء الذي يتولي إدارتها .. وكان وقتها أغلب المسئولين عن الكهربا من إيطاليا لأن ماكينات توليد الكهربا كانت إيطالية الصنع والتركيب والإشراف . وكان يحيط بالفيلا سور من الأسلاك الشائكة وعلي بعد متر شجر ضخم تحجب الرؤية لداخل الفيلا.
 
وبالصدفة رأينا فتحة مناسبة مقطوعة من السلك الشائك بفعل جرار يجر ماكينة حفر خاصة بمشروع تركيب مواسير المياه في الشارع .. وبدون تردد زحفنا من هذه الفتحة فوجدنا أنفسنا أمام شجرة قصيرة نوعا وساعدتها في تسلق الشجرة لكي تمسك بأقرب فرع شجرة واتركها لكي تسقط علي الأرض بثقلها ومعها فرع الشجرة .. فعلا نجحنا .. لكن فجأة سمعنا صوت الكلب وهو يأتي علينا يجري .. فحاولنا الهروب منه .. فسقطت عفاف علي الأرض فتوقفتُ لكي انهضها من علي الأرض .. لكن كانت ايادي الخواجا وحارس الجنينة أسرع , وتم الإمساك بنا .. وأخذانا إلي سلم الفيلا .. وإذ بالخواجا نور يأمر الحارس أن يبحث عن أهالينا .. لكن الحارس كان يعرفنا جيدا , وفعلا ذهب يستدعي الأهل .. وعند ما جاءوا قال لهم الخواجا نور أنا عايز اعرف السبب ان العيال دي تدخل عشان فرع شجرة .. ففوجئنا أن عفاف توجه كلامها للخواجا نور باللغة الإيطالية بحكم أنها طالبة في المدرسة الإيطالية .. ورد عليها الخواجا نور بالإيطالية ونحن واقفين مشدودين لا نعرف ما يدور بينهما من أحاديث .. وفوجئنا ان الخواجا نور يطبطب علي اكناف عفاف .. وبسرعة استردينا أنفاسنا .. وخصوصا عندما قال لها عشانك انتي يا قمورة سوف اسامحكما .. وتركنا واختفي . 
 
بالتأكيد سمعنا عبارات التانيب والتوبيخ من أهالينا .. أخذت عفاف علي جنب وبعصبية وقلت لها " كنتي بترطني مع الخواجا نور بتقولوا ايه ؟؟ " ضحكت عفاف وقالت لي ببراءة "هو لحقنا نَغير" ..!! انا قلت له علي طول احنا كنا عايزين نحتفل بالكريسماس في الحارة .. علي طول قال خلاص يا ستي سماح المرة دي بس كده ..!!" جلسنا علي عتبة السلم ووجدنا باقي اولاد الحارة زعلانين وفي يأس كامل . 
 
بعد ساعة تقريبا تفاجأنا بدخول حارس جنينة الخواجا نور علينا وهو يبتسم حاملا شجرة كبيرة نوعا ونادي علينا وهو يقول " تعالوا يا أولاد حطوا الشجرة دي في المكان إللي انتم عايزينه " .. هيصنا وهتفنا وزادت فرحتنا أضعاف بعد ما رأينا يأتي من ورائه ابناء الخواجة نور .. بنتين وولد .. احنا نعرفهم من بعيد لبعيد .. لكن مافيش اختلاط ... ثم يأتي ورائهم الخواجة نور نفسه مع زوجته الجميلة .. ومع دخولهم وزعوا علينا اكياس حلوي وهم يغنون اغاني الميلاد .. امتلأت الحارة بسكانها والمارة .. وكان وقتا جميلا مملوء فرحة غامرة عمت الحارة لأول مرة في حياة الحارة نفسها .. وقضينا وقتا مثمرا , والكل متمسك أن لا تفوته هذه الفرصة .. ولولا سقوط قطرات المطر وكأنها أتت خصيصا لكي تبارك فرحة الحارة ما كنا انهينا هذا الإحتفال .. واستطيع أن أقول أنه ولأول مرة في تاريخ الحارة يجيء الكريسماس إليها لكي يبشر لها بأعجب ميلاد طفل كما جاء في أشعياء " 9: 6: لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. " 
 
بعدها بسنة تركت عفاف البلدة والحارة إلي بلدة أخري مع أخيهم الذي تم تعينه في نفس المصلحة التي كان يعمل فيها والده .. لم أري عفاف من وقت تركها الحارة .. لكن لا أنسي أنني تعرفت علي صبية جريئة محبة مضحية ارادت ان تضع البهجة والفرح في حارتنا ولم تتردد في ان تضحي بنفسها ... شكرا لكي يا عفاف وربنا يسعدك لو كنتي مازلت معنا في هذه الحياة أو في الحياة الأخري ... وكل سنة وانتم طيبين ...!