كتب - محرر الاقباط متحدون 
قال الكاتب حسام الدين :" أحد الخيوط الخفية والناظمة لشخوص «داود عبد السيد» هو علاقتهم بال«الذاكرة»، شخوصه تشبه السينما خاصته ، وليدة نكسة سياسية وثقافية و إنفتاح إقتصادي، تحولات مجتمعية تسحق أحلام أفرادها وتورثهم «العجز»، لهذا تمثل الذاكرة عبء لأبطاله، نجد {الشيخ حسني} يتخلى عن الخفة و المشاغبة في حضرة عم «مجاهد»، يظهر جوهره الحقيقي وشرخ روحه لإنه في حضرة الذاكرة ، ذاكرة قديمة يرى في مرآتها التي لا ترحم ما آل إليه حاله ، لهذا بموت «عم مجاهد» يتم نقل شعلة الذاكرة وثقلها له، يؤسس {داود عبد السيد} للشيخ حسني في تلك اللحظة باعتباره الوريث الأخير للذاكرة والحكايات في حي متحلل يسارع الشباب للزحف خارجه ويسارع التجار الأثرياء لطمس معالمه.
 
مضيفا عبر حسابه الخاص على فيسبوك :" 
يبدو تمسك {الشيخ حسني} بمنزله عبثيا لكن تيمة «المنزل» هي المعادل الشعري لدى داود عن الذاكرة وهو ما نراه في «رسائل البحر» حيث يحاول {يحيى} الشاب أن يكمل جملته المتعثرة وهو يصف للمالك الثري رفضه لبيع المنزل، أن المنزل يمثل كلمة واحدة هي «ذكرياته»، ينظر له المالك باستنكار ويخبره أنه لا يفهم منطق حالم مثل ذاك ، بينما شخصية قابيل في الفيلم نفسه تجسد ما يعنيه داود عبد السيد بالذاكرة.
 
قابيل مريض و داءه في عقله ، عليه أن يخضع لعملية جراحية ستُنقذ روحه لكنها ستفقده ذاكرته، كل شخوص داود هي شخوص جمالية أقرب لدون كيشوت، لا تملك سلاح تحارب به إلا الذاكرة ، أشخاص يصروا على التذكر لما كان ولما يجب أن تكون عليه الأمور في مواجهة تحولات إجتماعية عملاقة لا تكمن النجاة فيها إلا بالتخلي عن الذاكرة ومسايرة التيار ، يرتجف قابيل وهو يخبر أحباؤه أن ذاكرته هي كل ما يملكه ، فيها يقطن كل من يحبهم ، كل إنحيازاته الأخلاقية والشعرية والجمالية ، سينجو من الموت لكنه لن يعرف من سيكون ، قد ينبعث من العملية وحشا أكثر روعا من نسخته القديمة ، الذاكرة تحرس أفرادها و الذاكرة الجمعية تحرس الوطن ، و رعب داود عبد السيد هو أشخاص في إنفصال عن ذاكرتهم ووطن في إنفصال عن ماضيه، لإن هذا  سيؤسس لمستقبل مشوه قد يخرج منا أكثر نسخنا رعبًا ، مسوخ تقايض إنسانيتها في سبيل النجاة والإندماج.
 
نرى ذلك الروع من التشوه في شخصية «يحيى» في «أرض الخوف» الضابط المثالي الذي كان عليه أن يتخلى عن ذاكرته لصالح الوطن و يحتضن هوية أخرى، في خضم تحولات كبرى يسقط يحيى من حسابات الجميع ويخذله الضباط الموكلونبحفظ هويته و ذاكرته ، فتتشظى كينونته بلا رحمة ويظل أسير هوية مشوهة لا تشبهه ، في مساحة تهويمية بين الملاك الذي كانه والوحش الذي صاره ، بينما ذاكرته الحقيقية تقتات عليه لتخبره أنه في مرتبة بين المنزلتين ، ذاكرته هي مرآة يرى فيها تشوهه.
يؤسس {داود عبد السيد} بالذاكرة إغتراب شخوصه ، شخوصه تملك حنين جمالي مؤرق يفسد كل عمليات إندماجها في العصور الجديدة ببناياتها القبيحة و إقتصادياتها التي تقتات على الجمال والأصالة ، شخصيات تراجيدية مفعمة بحنين لا يبلى، حنين ممزوج بالبراءة ، يجعلها في حالة إغتراب كامل عن كل ما حولها، وهذا الإغتراب بقدر وحشته بقدر ما يحفظ إنسانية أبطاله.
 
تمثل الذاكرة مقاومة أبطاله الوحيدة للعجز المعنوي الذي يتجرعوه أمام مجتمع تحولاته أكبر من قدرتهم على إستيعابها أو مجابهتها أو الإنتماء لها، ديناصورات جمالية لم تنقرض بعد، تحفظ الحكاية ولا ينقذها إلا الحب ، مثل بيسة التي تقنع قابيل في «رسايل البحر» أن ينقذ حياته بالعملية في مقابل أن يحكي لها كل شيء ، كل من مروا به ، كل من أحبهم ، كل دواخله ، وستحفظ هي ذاكرته القديمة وسترويها لذاته الجديدة .
 
بينما رابطة الشيخ حسني وإبنه تنقذ روحه ، فابنه رغم عجزه المقيم الممثل لجيله لازال يملك غواية الموسيقى، لايزال وارثًا لجذوة أبيه وماضيه، لازال يملك طيفًا من الذاكرة يمكن أن يصير معه إمتداد جمالي لحكاية مكان ووطن يحتضر، لا تستطيع شخوص داود عبد السيد مواجهة عصرها ولا إيقاف تغول المجتمع على كل مساحة جمالية لكنها تملك أن تحول الذاكرة من عبء وصليب تنوء الشخوص تحت ثقله لإمتداد وشراكة مع محب ، وتلك وصفة النجاة الوحيدة في عوالم داود ، الذاكرة تؤسس إغتراب شخوصه والحب يكسر الإغتراب و لو بفرد واحد يؤنس عالمك، ويخرجك من مدارات عجزك الشخصي لمدارات الإكتمال.