صفاء عصام الدين 
كانت ليلة 7 فبراير/ شباط الماضي الليلة الأخيرة، التي نام فيها شنودة داخل حجرته، في سريره، محتضنًا ما كان يسميهما عياله: لعبتيه "ماركو" و"مارينا"، قبل أن ينتقل إلى دار الإيواء؛ عالم جديد يخلو من أسرته وأقرانه وحضانته وألعابه.
 
تحكي آمال إبراهيم، التي تبنت شنودة منذ كان عمره أيام حتى بلغ 4 سنوات في كنفها قبل أن يأخذوه منها، عن لقاءها الأول بالطفل الذي لا يعرف أمًا غيرها "دخلت لقيته على الأرض في حمام الكنيسة، ملفوف. عمره أيام، مش عارفة يومين ولا أكتر، كان صغير أوي". كان مر على زواج آمال وفاروق 25 سنة، حاولا خلالها إنجاب طفل "لكن ربنا ما أرادش وبعت لي بعد السنين دي شنودة".
 
تحكي الأم عن النظرات الأولى بينها وبين الرضيع الذي احتضنته فكان صوت بكاءه رسالة "حسيت إن ربنا بعته ليَّ، رحت لأبونا وقلت له نخليه معانا ووافق، وعملنا له شهادة ميلاد علشان نكبره وندخله المدرسة".
 
لكن لم تكن الأسرة تتوقع أن المسار الذي سلكته سينتهي إلى انتزاع الطفل منها باعتباره "مسلم بالفطرة".
تقول هدى نصر الله، المحامية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، "الإجراء الذي اتخذته الأسرة غير قانوني، وكان الأفضل تحرير محضر بوجود الطفل في الكنيسة، وإيداعه دار إيواء للمسيحيين، ثم تتقدم الأسرة بطلب لكفالته".
 
كان الخلاف العائلي على الميراث السبب الذي دفع ابنة شقيقة الأب للإبلاغ عن الأسرة، واتهامها باختطاف طفل، وبعد إجراء التحقيقات وفحص الطب الشرعي لم توجه النيابة اتهامات للأسرة، ولكنها بحسب الصحفي في موقع الأقباط متحدون، نادر شكري، قررت إيداعه في دار أيتام واعتبرته "لقيط تم العثور عليه في الشارع".
 
يوضح شكري أن الأب وقّع على المحضر الذي يثبت أن الطفل عُثر عليه في الشارع، وبالتالي لقيط، فاقد للأهلية، واعتبروه مسلمًا بالفطرة، ولذلك أخذته وزارة التضامن الاجتماعي وغيرت شهادة ميلاده من شنودة إلى يوسف "أبوه راح يطلع له شهادة الميلاد في السجل لقاها ملغية واتمسحت".
تتساءل آمال عن السبب الذي وضعهم في هذه الأزمة "سنة كاملة في محاولات وبلاغات ضدنا من بنت أخت جوزي، وكل شوية البلاغ يتحفظ لأن مافيش بلاغ خطف بمواصفات ابننا، وبتوع التضامن زارونا شافوا الوضع وكتبوا تقرير إن الولد في حالة كويسة. وواحدة من التضامن سألته بتحب بابا وماما؟ قالها بحبهم قد الدنيا، كنا مطمنين إنه خلاص معانا".
 
لكن شنودة انتقل قسرًا من حضن أمه إلى دار الإيواء، لم تكن إجابته في تقرير وزارة التضامن الاجتماعي، سببًا كافيًا للمسؤولين لاعتبار بقاءه في منزله تطبيقًا لقاعدة "المصلحة الفضلى للطفل".
 
حاولت المنصة التواصل مع المسؤولين في وزارة التضامن عن ملف الكفالة، لكن لم نصل لردود منهم بشأن أسباب قرارهم وضوابط كفالة الأسر المسيحية للأطفال، وإمكانية احتفاظ الأسرة بالطفل مع تقنين الوضع وتحويله لكفالة بدلًا من التبني.
 
ومع أن الديانة المسيحية تبيح التبني، لا يمكن للمسيحيين المصريين تبني أطفال لأن القانون يجرِّم ذلك. وكانت وزارة التضامن الاجتماعي وضعت عددًا من الشروط لكفالة الأطفال، من بينها تطابق ديانة الطفل المكفول مع الأسرة الكافلة.
 
تسترجع آمال اليوم الذي اضطرت فيه لتسليم الطفل "في 7 فبراير طلبونا في القسم لقيت اتنين من وزارة التضامن، والظابط قال لي عايزين ياخدوا الولد. قلت أروح معاه مش هسيبه، رحت معاه في البوكس لغاية دار الأورمان، ما كانوش عايزين يستلموه".
 
ولأن دار الأورمان لا تستقبل الأطفال المسيحيين رفضوا في البداية استلام شنودة "هم اتكلموا معاهم بعيد عني، وفجأة مديرة الدار قالت له تعالى أوريك لعب وأطفال كتيرة فوق، قال لي هطلع وأنزل تاني. طلع مانزلش".
 
لم تتوقف توسلات آمال "قلتلهم طب أقعد أمسح البلاط، وأخدم العيال كلها، بس أكون جنبه. قالوا لا خلاص على كده"، طرقت أبواب الوزارة للحصول على إذن بالزيارة "رفضوا زيارتي".
 
بعد انتزاع شنودة بشهر، فكرت آمال في حيلة لزيارته في الدار "رحت وخدت معايا واحدة مسلمة علشان يدخلوني، كان فيه عيال من الشبابيك بيبصوا علينا، ندهوا عليه. طلع وشافني جاله ذهول جري ينزل علشان يشوفني منعوه، وقالوا لي بلاش تشوفيه احنا بنحاول ننسيه، الولد نفسيته وحشة".
كانت آمال تتطلع لأقل القليل لسماع صوته "كنت مستنية أسمع صوته قلت لهم أسمع صوته من غير ما أشوفه قالوا لي ممنوع".
 
شنودة يغادر مع أحلامه
ترك شنودة منزله وأسرته وألعابه "كان بينام جنب دبدوبين ماركو ومارينا، مشي وسابهم، كان مسميهم عيال ويقولي يا ماما احضنيني أنا وعيالي"، مثل أي أم تفقد طفلها الوحيد، لا تستطيع آمال تجاوز تفاصيل حياتهما اليومية "كان هو اللي بيحضني، كان بياخد راسي بين دراعه".
 
حياتهما المستقرة تم بترها فجأة "قدمت له يلعب كاراتيه وكان بيروح التمارين وشاطر، خدوه قبل امتحان الحزام الأصفر بكام يوم".
 
أحلام شنودة كانت كثيرة "لو سألتيه أنت مين يقولك أنا الدكتور شنودة فاروق بولس أكبر جراح في مصر "، تحكي آمال "كان بيحب الدكتور بتاعه أنا كنت بروح بيه دايمًا ما بستناش عليه لو تعب".
 
المحامية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، هدى نصر الله، تعتبر أن المادة الثانية من الدستور سند أساسي لتفسير إسلام الطفل المصري عديم الأهلية "الطفل عديم الأهلية مصري ومصر دولة إسلامية بموجب المادة الثانية، فبالتالي عديم الأهلية مسلم بالفطرة في هذه الدولة".
 
تشير نصر الله خلال حديثها مع المنصة إلى المادة الثانية من قانون الجنسية التي لا تنص على أن "اللقيط" يعتبر مسلمًا، غير أن "أي طفل غير معروف الهوية يعتبر مسلم، ده قانون الدولة المصرية بسبب تفسيرات قديمة عن من يولد في دار الإسلام هو مسلم".
 
وبشأن إباحة الشريعة المسيحية للتبني، توضح نصر الله أن التبني منصوص عليه في لائحة 38 للأقباط الأرثوذكس، بينما قانون الطفل الحالي ينص بشكل واضح في المادة الخامسة على حظر التبني "قانون الطفل ينسخ ما قبله وبالتالي النص الموجود في لائحة 38 يعتبر لاغي".
 
وبشأن تفسيرات "المصلحة الفضلى للطفل" تقول نصر الله "هما بيعتبروا أن الإسلام المصلحة الفضلى للطفل".
 
تعتبر نصر الله أن حل أزمة شنودة يبدأ من إثبات وجوده في الكنيسة "من وضعه في حمام الكنيسة هو شخص ينتمي لهذا المكان. هو أحد أبناء الكنيسة".
الدفاع عن الإسلام أولوية الدولة
 
الباحث بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إسحق إبراهيم، يعتبر أن قصة شنودة كاشفة لطائفية القوانين والدولة التي تتخذ قرارات وتتبع سياسات تؤدي لتمييز بين المواطنين.
 
يتوقف إبراهيم في حديثه مع المنصة أمام التشريعات التي تحكمها مرجعية دينية تؤثر على سلوك قطاعات الدولة "الدولة تعتبر أن دور من أدورها الدفاع عن ما تعتقد أنه يمثل الشريعة الإسلامية".
 
"هذا الدور يعلو على حقوق الأفراد أو أطفال أفضل لهم الحياة وسط أسر بدلًا من دور الإيواء"، يضيف إبراهيم ويتساءل "ما الخطر الذي يمثله بقاء وضع الطفل على ما هو عليه وسط الأسرة حتى يصل لسن التمييز بمنطق الشريعة الإسلامية؟"
 
يعتبِر إبراهيم أن أجهزة الدولة وقطاعاتها المعنية في هذه القضية "حولت الطفل لشئ، جعلته جمادًا يدور حوله صراع من صاحب الحق في امتلاك الطفل؟"، ويشير إلى تغيير وزارة التضامن الاجتماعي لشهادة ميلاد الطفل وسرعة تبديل اسمه بآخر جديد "عايز يلحق يثبت ملكيته للجماد بتغيير شهادة الميلاد. وأصبح مسلمًا".
 
يتوقع إبراهيم أسوأ السيناريوهات "الولد مش راجع، الكنيسة أيضًا تتعامل بودن من طين وودن من عجين. لو فيه شخص منهم عنده تعليق كان طلع قاله".
 
أين مصلحة الطفل؟
عن المصلحة الفضلى للطفل تقول عزة سليمان، المحامية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة قضايا المرأة، "ماحدش بصلها، ماحدش فكر في شكل المعاناة اللي هيمر بها الطفل اللي بيتاخد من حضن أهله وبيئته في السن اللي بيكون فاكر فيه كل حاجة. اللي بيحصل مش هيروح من دماغه".
 
تتوقف سليمان عند النيابة التي لم توجه اتهامات للأسرة لوجود حسن النية "يعني مفيش جريمة"، لكن "ماحدش وقف ثانية عند مصلحة الطفل، ماحدش وجههم للكفالة لتغيير الوضع وتطبيق معايير الكفالة عليه، خدوه تلقائيًا ولم يبذلوا أي جهود لصالح الطفل، وده يخلينا نروح لمشكلة ليه الراجل ده عمل كده؟ لأن مقفول على المسيحيين التبني".
 
 وتؤكد سليمان وجود سبل وآليات قانونية للتحرك ضد قرار وزارة التضامن الاجتماعي "وجود الطفل داخل الكنيسة معناه أن من وضعه داخل الكنيسة ينتمي لهذا المكان ويريد أن ينتمي الطفل لهذا المكان".
 
"الإجراءات تبدأ بطلب كفالة شنودة، ومع رفض وزارة التضامن للطلب نتجه للطعن على القرار لدى القضاء الإداري، وهنا مساحة كبيرة للحركة، إذ نستند للقانون والاتفاقيات الدولية ومصلحة الطفل الفضلى".
 
المسار القانوني الذي تتحدث عنه سليمان لا تفهمه الأسرة، تقول آمال "أنا ما بعملش حاجة غير الصلاة، أبونا قالي صلي هيرجع لك"، لا تفهم آمال وزوجها معنى مسلم بالفطرة، ومعنى عديم الأهلية مسلم "ده مسيحي. إحنا قدمنا شهادة المعمودية وفيه على إيده صليب". 
 
كسَر فراق الطفل الأسرة، ترك الزوجان المنزل بذكرياته ببصمات أصابع شنودة ولعبه على الجدران، بصخب لعب الاستغماية والكرة في المنزل "ماقدرناش نقعد في البيت سبناه، ده بيت العيلة، ماقدرناش نعيش مع اللي كانت السبب في اللي احنا فيه".
 
رحل الأب والأم عن المنزل وجمعا ألعاب شنودة وملابسه، لتبقى رائحته وصورته تحاوطهما آملين في عودته واحتضانه من جديد.
#مجتمع #المنصة