فاطمة ناعوت
«اللهُ محبّة.. وهو الرحمن الرحيم». المحبةُ وحدها تخفِّفُ كلَّ ثِقَل، تحتمل كلَّ مشقّة، تجعلُ كلَّ مُرٍّ عذبًا، تدفعُ الإنسانَ نحو الأشياء العظيمة، وتُرغِّبه دائمًا فيما هو أكمل.

تلك نثاراتٌ من نهج الراهبة الجميلة، مُربية الأجيال السور «باسمة فرح»، مديرة مدرسة «الراهبات الفرنسيسكانات» بشارع قصر النيل بالقاهرة، والتى وجّهت لى دعوةً كريمة لحضور اجتماع «الأسرة التربوية» الختامى، الذى تلتقى فيه مديرة المدرسة بهيئة التدريس قُبيل العام الدراسى الجديد. والحقُّ أننى وقعتُ فى أسرِ هذه الأم الجميلة، التى خدمت لأكثر من نصف قرن فى عديد من مدارس راهبات الفرنسيسكان بمختلف محافظات مصر، تخرجت على يديها طالباتٌ مصرياتٌ صرن اليوم فارساتٍ مشرقات يحتللن مكاناتٍ وأماكنَ مرموقة كوزيراتٍ وسفيرات وطبيبات ومهندسات ومحاميات وأستاذات أكاديميات فى جامعات العالم وبالأخص فى جامعات فرنسا. حين أنصتُّ إليها بالأمس وهى تتحدثُ إلى أسرة المعلمين قبل بدء العام الدراسى، وجدتنى فى حضرة شخصية فريدة تجمعُ ما لا يجتمع: الرقّة فى الحديث، والصلابة فى القرارات، خفّة الظلّ والحسم فى مواجهة الخطأ، الحكمة وحنكةُ العقل التعليمى الخبير مع عذوبة قلب الطفولة، وتلك هى المعادلة الصعبة التى تُقوِّم شخصيات الطالبات بالمحبة والاحترام والصرامة فى آن. لهذا لم يكن غريبًا أن تغدو الأخت باسمة معشوقة الجميع، سواء من هيئة التدريس والعاملين بالمدرسة، أو من الطالبات أو ممن تخرجن فى تلك المدرسة العريقة. تحتفل راهبات الفرنسيسكان هذا العام بعيد ميلادها رقم ١٢٥، أزهرت خلالها عقودًا من اللؤلؤ النقى من بنات مصر. ذاك أن نهج التعليم لديهم، كما فى جميع مدارس الراهبات والرهبان، لا يقوم على حشو الرؤوس بالمعلومات، بل تغذى الطالبات والطلاب بقيم الأخلاق والسموّ والأناقة والنظافة والنظام والتهذّب فى السلوك وفى الكلام، وتغرس فيهم قيم الوطنية والتحضّر فى التعامل مع جميع بنى الإنسان، دون تمييز طبقى أو طائفى، هذا إلى جانب التعليم الأكاديمى الرفيع. ولهذا تنجح مدارس الراهبات فى صنع أجيال مثقفة واعية وراقية. ولا عجب أن يتهافت أولياءُ الأمور لإلحاق أطفالهم بتلك المدارس العريقة، التى نرجو أن تحذو جميعُ مدارس مصر حذوها فى نهج الأخلاق والتعليم.

خلال كلمتى تحدثتُ إلى الحضور عن شغفى القديم بمهنة التعليم؛ إذ أرى المعلم رسولًا يحمل رسالة هى واحدةٌ من أشرف وأرقى وأصعب رسالات الإنسانية. كنتُ أحلم بأن أغدو معلّمة لما شهدته من رقىّ معلماتى وأنا طفلة فى تلك المدارس، التى تحترم عقل الطفل ونفسيته وتبحث فى داخله عن معدن الموهبة لتُصقله وتلمّعه وتهذّب أى ملمح من ملامح الاعوجاج فى شخصية الطفل؛ فيغدو مع الأيام ليس وحسب إنسانًا متفوقًا دراسيًّا، بل مواطنٌ صالح يخدم مجتمعه والإنسانية. ورغم تخرجى فى كلية الهندسة، وبعدما صرت كاتبة أحتفل هذا العام بصدور كتابى رقم ٣٥، ورغم زواجى وزواج أبنائى إلا أننى مازلتُ أنحنى كلما التقيتُ أحدًا من أساتذتى فى المدرسة أو الجامعة، مثلما أنحنى أمام أى راهبة ألتقيها فى الطريق لأنهن حقّقن فى نظرى المعادلة المستحيلة: أن يكنَّ أمهاتٍ حقيقيات لآلاف الأبناء والبنات، بكل ما تحمل كلمة «الأمومة» من معانٍ فى أعمق صورها، دون أن يتزوجن أو ينجبن!. نحن الأمهات العاديات نبذل أعمارنا وجهدنا مقابل كلمة «ماما» التى نحصدها من طفل أنجبناه أو طفلين، بينما الراهبات يبذلن أضعاف ذلك الجهد مع آلاف الأطفال دون أن يحصدن شيئًا سوى المحبة والاعتراف بالجميل، لكنهن يحصدن احترام البشرية، ورضوان الله لقاء ما يقدمنه للإنسانية.

خلال كلمتها المدهشة بأعضاء هيئة التدريس، قالت الأم «باسمة فرح»: «إننا نؤمن بأننا نحمل رسالةً سامية تلى رسالة الرسل والأنبياء، وتواجدنا معًا هو اختيار وتكريمٌ من الله لكل منّا، فليرفع كلٌّ منّا قلبه لله تعالى شاكرين محبته ونعمته واضعين ذواتنا بأكملها ورسالتنا بين يديه ليباركها ويجعلها رسالة مثمرة. أشكرُ كل مُربٍّ ومربية قام بتأدية عمله بضمير حى وعمل دؤوب، بإخلاص وإتقان. ونحن يا أحبائى أعضاء الأسرة الواحدة والرسالة المشتركة لابد أن نتكاتف معًا لتحقيق الهدف، الذى هو تكوين وتشكيل شخصية الابنة من جميع الجوانب، نفجرُ الطاقاتِ ونشجع المواهبَ ونغرس السلوكات الراقية، لنجعل من ابنتنا إنسانةً بكل ما تحمل الكلمة من قيم ومبادئ لنُخرج ابنة مُحِبّة لله، مُحِبّة للوطن وللإخوة جميعًا بدون تفرقة».

أشكر أسرة المدرسة العريقة على دعوتى لحضور هذا الاجتماع المدهش لكى أجدد إيمانى بأن ارتقاء المجتمع لا يقوم إلا بالتعليم الممتاز الذى نحاول تكريسه فى جمهوريتنا الجديدة، والذى وضعه الرئيس السيسى فى أَوْلَى اهتماماته. وتحية احترام لكل معلم نبيل يراعى الله فى تقديم رسالته الشيقة الشاقة.
نقلا عن المصرى اليوم