عاطف بشاي
فى محاضرة من محاضراتى فى معهد السينما.. سألنى طالب بحيرة.. ما هى خصائص «الميلودراما» وما الفرق بينها وبين «التراجيديا» وما أوجه الاتفاق والاختلاف؟ وإذا ما كانت مذهبًا فنيًا شائعًا ومقبولًا لدى عامة المشاهدين فلماذا تعامل من قبل النقاد المتخصصين بالرفض والاستهجان؟!.

قلت له: لكى أبسط لك الأمر سوف أحيلك إلى «جحا»..

فصاح بدهشة بالغة: «جحا!» ما علاقة «الميلودراما» بجحا؟!، هل كان جحا كاتبًا للسيناريوهات أو مخرجًا سينمائيًا؟!.

قلت «لا» ولكن فى أطروفة من أطروفاته الساخرة قال خلاصة الخلاصة فى وصف خصائص «الميلودراما».. ببساطة ودون تعقيد تقول الأطروفة.. «غاب جحا عن بلده وأهله أعوامًا بحثًا عن الرزق.. فلما عاد وقد سيطرت عليه مشاعر الشوق والحنين لذويه.. فسأل أول من طالعه على قارعة الطريق: هل هم جميعًا بخير.. قال له: هم فى أحسن حال ولا ينقصهم إلا رؤياك.. اللهم إلا كلبك الذى أصابه فجأة سعار فانقض على أخيك فأسرع الجميع بقتله.. قال جحا الحمد لله أن أخى قد نجا.. فبادره الرجل: للأسف لم ينج.. لقد هلك متأثرًا بعضة الكلب.. قال: رحمه الله.. فما حالة أمى بعد رحيله؟!.. فأخبره.: للأسف لم تتحمل الصدمة فرحلت حزنًا عليه.. فقال جحا: وا رحمتاه لوالدى المسكين.. فقال له الرجل: هون على نفسك فقد أراحه الله من زمن فقد قتله الحزن على أخيه الذى ذبحه اللصوص.. وتبع أمك إلى دار الخلد.. ولولا أن جحا المسكين انقض على الرجل وأوسعه ضربًا حتى صرعه لزف إليه مقتل أهله أجمعين.

والحقيقة أننا عند استعراض بعض الأفلام المأخوذة عن روايات الروائى الراحل يوسف السباعى'> يوسف السباعى والتى تزخر بها السينما المصرية وتعتبرها من كلاسيكياتها البارزة مثل «بين الأطلال ونادية وإنى راحلة ونحن لا نزرع الشوك ورد قلبى» نكتشف أن هناك تشابها بل تطابق رئيسى مع أطروفة جحا فى البناء الدرامى.. الذى يعتمد على تتابع الفواجع المأساوية.. وتسلسل الأحداث الدامية وتواتر المفاجآت العاصفة.. والأحزان المتفاقمة.. وقصص الحب المجهضة.. ومصائب القدر العمياء.. والمصادفات الغريبة وغير المنطقية.. ولنأخذ فيلم «نادية» المأخوذ عن الرواية بنفس الاسم مثالًا.. وهو بطولة سعاد حسنى وإخراج أحمد بدرخان.. حيث تعيش التوأمتان نادية ومنى مع والدهما الأستاذ الجامعى ووالدتهما الفرنسية حياة رغدة مترفة هانئة، وتبدو المفارقة واضحة بين شخصيتيهما.. فنادية خجول هادئة منطوية.. بينما منى جريئة ومقتحمة ومتحررة.. وفجأة تبدأ سلسلة الفواجع المستمدة من صدف قدرية غاشمة.. فتتعرض نادية لانفجار السخان الذى يتمخض عن حروق شديدة تترك آثارًا واضحة على وجهها.. فيدفعها الحادث الأليم إلى العزلة والوحدة والاكتئاب.. ولا يكتفى يوسف السباعى'> يوسف السباعى بفاجعة واحدة لرصد ردود أفعال الشخصية ومسار حياتها.. ولكنه يلاحقنا بفاجعة أخرى هى الموت المفاجئ للأب الذى قرر المؤلف أن يشطب اسمه من سجلات الحياة دون مبرر أو هدف، اللهم إلا أنه احتار فى معالجة أهمية وجوده دراميًا فتخلص منه.. دعمًا لاستدرار الدموع الغزيرة للمتفرج المسكين الذى ما إن يجففها حتى ينقض عليه بمفاجأة قدرية عاصفة أخرى وهى وفاة منى بأزمة قلبية... فتغرق نادية وأمها فى بحر من الدموع والاكتئاب، وتقرر الأم العودة إلى فرنسا مسقط رأسها.. ومعها نادية التى كانت تحب د.مدحت وتعكف على التواصل معه عن طريق الخطابات.. واضطرت إلى إرسال صورة منى بدلًا من صورتها وهو لا يعلم بأمر الحروق التى شوهت وجهها..
تقع فى المحظور ويسقط فى يدها حينما يخبرها فى خطاب عاجل له يبث فيه أشواقه العارمة لرؤيتها وأنه سوف يسافر إلى فرنسا لمقابلتها.

وأراد المؤلف أن يكتفى بهذا الكم من النوائب والكوارث وأن يترفق بالمتفرج البائس ويهديه نهاية تبرز حنو وعطف وإنسانية الحبيب النبيل الذى يتغاضى عما أصابها من تشوه تصورت أنه سيصبح حاجزًا منفرًا له عن التواصل العاطفى معها، فإذا به لا يعير لهذا الأمر أدنى اهتمام.. وسارا معًا فى رحاب روضة الطبيعة المزهرة الغناء.. يتناجيان فى حب شفيف.. وهو يؤكد لها أن حب الجسد فانٍ.. وحب الروح باقٍ.. وليس له آخر..

لكن المتفرجين يخرجون من قاعة العرض وهم مازالوا يذرفون الدموع ليس من وطأة الأحزان ولكن ربما هى دموع الأمل الرقراقة.

أما فيلم «بين الأطلال» بطولة فاتن حمامة وعماد حمدى عن الرواية التى تحمل نفس الاسم ليوسف السباعى ومن إخراج عز الدين ذو الفقار فارس الميلودراما بحق، وليس فارس الرومانسية كما يشاع.. والفيلم يعتبر أكثر غلوًا وتطرفًا فى ميلودراميته.. حيث تقع فيه البطلة فى حب المؤلف «محمود» المتزوج بمريضة قلب وتقف حائلًا بينهما.. يصاب البطل فى حادث سيارة ويرقد على فراش الموت.. ويعرف زوجها أنها زارته بالمستشفى فيخيرها بينه هو وابنها وبين «محمود» فتختار الاستمرار مع الحبيب الذى ما يلبث أن يتوفى.. وتعيش البطلة فى بيت «محمود» تمرض زوجته.. لكن الأقدار العمياء كالمعتاد تجعل ابنة «محمود» تقع فى حب ابن البطلة (شوفوا ازاى»!!..

وهكذا يواصل المتفرج البكاء والانتحاب.. وكم من الميلودراميات ترتكب باسم السينما المصرية.
نقلا عن المصرى اليوم