القس رفعت فكري سعيد
وليام روتو، البالغ من العمر ٥٥ عامًا، هو الرئيس الجديد لكينيا، وهو أول رئيس مسيحى إنجيلى للبلاد. ويرجح عدد من المحللين أن «روتو» سيولى الدين أهمية كبرى ويضعه فى مركز الصدارة، بعد أن لعب دورًا رئيسيًا فى فوزه فى الانتخابات الرئاسية.

والرئيس وليام روتو جاء من قاع المجتمع الكينى، حيث كانت مهنته بيع الدواجن والفول السودانى فى ريف كينيا، وكان أول مرة يلبس حذاءً فى حياته كان وهو فى سن الخامسة عشرة من عمره، وروتو خطيب مفوّه ومكافح ومناضل وقريب من البسطاء والفقراء فى كينيا، ووعد الشعب الكينى بالتنمية الاقتصادية والقضاء على البطالة.

ونتيجة لاستخدامه الكثير لنصوص الكتاب المقدس فى حملته الانتخابية، وصفه خصومه بلقب «نائب يسوع»، وهذا اللقب تبناه أنصاره.. وهنا تكمن المشكلة

فى أن يتوهم أى رئيس أنه مبعوث العناية الإلهية أو خليفة الله على الأرض، ومِن ثَم يكون حكمه ثيوقراطيًا إقصائيًا للمغايرين دينيًا وعقائديًا وفكريًا.

ومن هنا لا يجوز خلط الدين - أى دين - بأنظمة الحكم، فالدين مطلق بطبيعته، والسياسة نسبية بطبيعتها.. ومن غير المنطقى أن يتم الخلط بين المطلق والنسبى، فهذا الخلط من شأنه أن يتصادم مع المسار الحضارى للإنسانية.

يخطئ من يظن أن الدولة الدينية هى التى ظهرت فقط فى العصور الوسطى فى أوروبا، عندما سيطرت الكنيسة على المناخ العام، فمن حولنا توجد دول الآن نستطيع أن نعتبرها دولًا دينية، وهذه الدول تعرضت للخراب والدمار والتقسيم؛ بسبب الإصرار على فرض الشرائع الدينية، ولعل الصومال والسودان وأفغانستان وإيران أمثلة واضحة لكل ذى عين بصيرة. وقد عرَّف الدكتور جلال أمين، الدولة الدينية، بأنها «دولة يمارس حُكامها الحكم باسم الله، معلنين أنهم يطبقون شريعته ويستلهمون مقاصده، ويلتزمون أوامره ونواهيه»، فالدولة الدينية إذًا لا تشترط أن يحكمها رجال الدين مباشرة، فباستثناء دولة الفاتيكان أو الدولة الفاطمية فى مصر، كان حكام كل الدول الدينية يمارسون الحكم باسم الله، والحكم الدينى- أيًا كان الدين- سواء كان فى أوروبا أو فى غيرها من الدول التى تستند فى حكمها لمرجعيات دينية، لن تجد فى ظله إلا سيادة القهر باسم الله وباسم الدين، حيث الحكم الدينى تسود العنصرية والاستعلاء على الآخر الدينى المغاير.

وفى ظل أى حكم دينى ينتشر التمييز على أساس اللون والدين والجنس، كما يتزايد كبت الحريات وتكميم الأفواه وقمع الأفكار وقصف الأقلام ومصادرة الكتب وقتل الإبداع، وكذلك فى ظل الحكم الدينى كثيرًا ما يحدث تقسيم للدولة الواحدة إلى عدة دول، لأن الاندماج الوطنى لا يمكن أن يحدث فى ظل أى حكم دينى، فأنصار الدولة الدينية يفضلون دولة صغيرة متجانسة دينيًا مع ما يعتقدونه صحيح الدين عن دولة كبيرة متعددة الأديان والمذاهب.

ولعل أخطر ما فى الدولة الدينية أن الحاكم فيها يكون ظل الله فى الأرض.. يحكم باسم الله، ويصدر التشريعات والقوانين باسم النص المقدس، ويرسم السياسات باسم الله، ومن يطيعه فقد أطاع الله، ومن خالفه فى الرأى أو حاربه فإنما يخالف ويحارب الله، مع أنه مجرد بشر، قد يصيب وقد يخطئ، لكنه فى هذه الحالة تُضفَى عليه علامات التقديس ليصبح فى الحقيقة هو الوكيل الوحيد والمتحدث الشرعى دون سواه باسم الله، ومن ثم لا تجوز مراجعته أو مساءلته، وبهذا تفتح هذه الدولة الباب واسعًا للاستبداد باسم الدين، وهو أسوأ أنواع الاستبداد.

إن الدولة المدنية الوطنية الحديثة ذات المرجعية المدنية هى الدولة التى تحترم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. بينما الدولة الدينية أو الدولة ذات المرجعية الدينية تستند فى مرجعيتها للمطلق الذى لا يجوز لأحد أن يختلف معه بأى حال من الأحوال، بينما المرجعية فى الدولة المدنية الوطنية الحديثة تكون للنسبى القابل للحوار والنقاش والاختلاف دون تكفير دينى ودون تخوين وطنى، كذلك فإن الدولة المدنية الوطنية الحديثة تقوم على أساس مبدأ المواطنة، أى أن مواطنيها جميعًا- مهما اختلفت أصولهم العرقية أو معتقداتهم أو أفكارهم أو دياناتهم- هم لدى القانون سواء فى حقوقهم المدنية والسياسية.

من المؤسف أنه على مدار التاريخ لجأ كثير من الحكام فى التاريخ إلى صبغ حكمهم بصبغة دينية تحت دعاوى الحاكمية لله والعصمة والقداسة، فى حين أن العصمة والقداسة لله وحده فقط، وليس هناك ضمان أن يخرج الحاكم عن جادة الصواب ويضع عنوانًا للاستبداد والإفساد.. إن خلط الدين بالسياسة يفسد الدين والسياسة معًا، إذ إن الدين ثابت ومطلق ومقدس ومنزه عن الخطأ، بينما السياسة متغيرة تبعًا للظروف والمصالح.

إن الدولة المدنية الوطنية الحديثة لا تتصادم مع الدين، إذا أبقينا الدين فى دائرة العلاقة بين العبد وربه، وتركنا إدارة الدولة للناس دون سلطان من طبقة الكهنوت أو رجال الدين أو الشرائع الدينية، فالناس أدرى وأعلم بشؤون دنياهم.

إن الدولة المدنية الوطنية الحديثة هى دولة القانون والدستور الوضعى المستمدين من التجارب الإنسانية ومن الواقع؛ لتنظيم حياة المجتمع بتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحديد حقوق وواجبات المواطن، إن الدولة الدينية مرفوضة رفضًا باتًا، ونتمنى ألا يسقط الرئيس الكينى فى هذا الفخ!!.
نقلا عن المصري اليوم