تدبير الخلاص بحسب تعليم القديس اثناسيوس الرسولى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كمال زاخر
تأتى أهمية الذهاب إلى اطروحات القديس أثناسيوس الرسولى (296 ـ 373م.) ليس فقط لكونه من مفكرى ومنظرى الكنيسة الجامعة ـ قبل الإنقسام ـ الأمر الذى يجعل اطروحاته محل قبول من كافة الكنائس، بل أيضاً لتكوينه الفكرى والشخصى الذى جمع بين البعد التقوى الذى تشرّبه فى بيت أبيه وفى تلمذته النسكية على القديس انطونيوس مؤسس الرهبنة، وبين البعد اللاهوتى والكنسى الذى تعلمه فى خدمته مع البابا السكندرى الكسندروس كشماس ملاصق له، وعلاقته الوطيدة بمدرسة الأسكندرية اللاهوتية حتى صار من معلميها، نحن إذن إزاء معلم مسكونى مدقق. اللافت انه كان ضمن وفد كنيسة الاسكندرية فى مجمع نيقية ـ وهو بعد شماس ثم بطريركاً ـ وقد عقد ليفصل فى السجس الذى أحدثه القس السكندرى أريوس فى شأن طبيعة المسيح وكمال لاهوته، وكان اثناسيوس الشاب العشرينى هو فارس هذا المجمع، وعلى الرغم من تعدد الكتابات التى كتبها ق. اثناسيوس يبقى كتاب "تجسد الكلمة" هو العمدة بينها، وفيه "يقدم فى وضوح قصة خطيئة الإنسان وخلاص الله، بحسب تعليم كنيستنا القبطية، ويقدم رؤية آبائية صافية فى موضوع الخلاص".

ونحن هنا نتتبع طرح ق. اثناسيوس الرسولى عبر صفحات كتاب الخلاص الثمين، لأحد رهبان دير الأنبا مقار العامر ببرية شيهيت ـ ميزان القلوب بوادى النطرون.

جاء شرح ق. اثناسيوس لعقيدة خلاص الله للإنسان فى نقاط محددة ـ اعتمدتها الكنيسة فى قانون الإيمان كواحده من أهم قرارات ذاك المجمع 325 م.
ـ أن الله خلق الإنسان من عدم على صورته، "وان هذا الإنسان ليس مخلوقاً خالداً بالطبيعة، أى غير مائت"، لكنه خلق لكى يمكن له فيما بعد أن  ينمو إلى شركة غير مائته مع الله".

ـ بسقوط الإنسان سقط من مصيره الإلهى الذى قصده الله له؛ فجنى العمى الروحى، جراء فقده معرفة الله، حتى أن الخليقة صارت بالنسبة للإنسان وكأنها حجاب يحجب "معرفة الله عنه" مع أنها (أى الخليقة) "خُلقت لتستعلن الله للإنسان".

ـ وجنى أيضاً الفساد والموت ـ كأجرة للخطيةـ فعاد الإنسان إلى العدم الذى سبق أن أخرج الله الإنسان منه.

ـ ويستطرد الكاتب وهو يتابع طرح ق. اثناسيوس أنه "لمقابلة ما نتج عن هذه الخطية تجسد كلمة الله، وهو فى تجسده يستوفى احتياج الإنسان من سبل ثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• دخول الحياة الإلهية إلى العالم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلمة "اللوغوس" كان هو الواسطة للخلقة الأولى (راجع رسالة ق. بولس إلى كنيسة كولوسى) "لكن الإنسان اثبت أنه ضعيف جداً عن أن يبلغ ما أعده الله له من مصير مبارك، فبحقيقة التجسد استعاد الإنسان تلك الرابطة بين الإلهى والبشرى بطريقة أكثر ثباتاً وضماناً. فالكلمة لأنه هو الإله بالطبيعة، ولكونه اتحد بالإنسان فى التجسد، أصبح ممكناً للإنسان أن يقتنى هذه الحياة الإلهية دون أن يخشى فقدانها مرة أخرى".

"شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا. الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ. لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ." (كولوسى 1 : 12ـ 20)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• إعلان معرفة الله للبشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفى نفس النص السابق ندرك دور الكلمة فى إعلان صورة الله غير المنظور واسترجع لنا معرفتنا المفقودة عن الله، "والتجسد والموت والقيامة هى أعمال خلاصية حقاً لكن حياة المسيح وخدمته على الأرض كان لها دور هام فى إيفاء احتياج الإنسان لمعرفة الله، وهو إعلان محبة الله الآب للبشر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• استيفاء دين موت الإنسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان موت المسيح استيفاء لمطلب العدل الإلهى الذى كان لابد من أدائه، لكى يتحرر الإنسان من الفساد، "وهكذا استوفاه المسيح الذى فى بشريته الشاملة صار متاحاً لكل الناس أن يموتوا من خلال موته هو على الصليب، لذلك فإن كل الذين ماتوا بموته يصيرون أيضاً قائمين أحياء بقيامته، متجاوزين الفساد الذى سقطوا فيه."

ويختم الكاتب عرضه هذا موضحاً "فى أحد الفصول الأخيرة من كتاب تجسد الكلمة (فصل 54)، يجمع فيه القديس اثناسيوسخيوط الموضوع الذى عرضه على مدى الكتاب، تتضح كل الأفكار السابقة معاً فى صيغة مركزة ومختصرة هكذا:

[لقد صار إبن الله إنساناً، لكى نصير نحن آلهة.
لقد استعلن نفسه بالجسد، لكى ننال نحن معرفة الآب غير المنظور.
لقد احتمل هو إهانة البشر له، لكى نرث نحن عدم الموت.]

ويستطرد الكاتب الراهب معلقاً:
إن الخطية استشرت فى جذور مشكلة الإنسان. والخطية أدت إلى عمى الإنسان الروحى، وإلى موته. هذه لثلاثة: الجهل، الموت، الخطية؛ مرتبطة معاً بعضها بالبعض، وكل واحدة منها تعزز وتقوى الأخريين، وكل من الثلاثة هى مظهر اساسى من مظاهر قضية الإنسان، ولا يمكن بأى حال التغاضى عن بحث واحدة منها، وهكذا فعل الآباء إذ استوفوا الثلاثة أوجه لقضية الإنسان.

ويعرض الكاتب رؤية القديس اثناسيوس فى متعلقاً بتعليم الخلاص، باستعراضه لمقالات ق. اثناسيوس الأربعة ضد الأريوسيين ورسائله إلى القديس سرابيون، وهو ما سنعرضه فى مقالات قادمة.