إعداد وتقديم الباحث – عصام عاشور
استكمل الباحث عصام عاشور، الحديث عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وفى هذا الجزء (السادس) تناول مجزرة التل الكبير وإحتلال كامل مصر من قبل الإنجليز.
 
وقال عاشور، خلال برنامجه "الحكاء.. شذرات من تاريخنا" والمذاع كل خميس على شاشة الأقباط متحدون، وقفنا فى الحلقة السابقة عندما نجح الإنجليز فى إقناع سلطان باشا بأن السلطان العثمانى يكره كل من عرابى والخديوى توفيق ويريد التخلص منهما الإثنين .. وأنه فى هذه الحالة يمكن تعيينه حاكماً على مصر .. ومن هنا نجح الإنجليز فى شق صف الوطنيين المصريين من ضباط ونواب.
 
وتابع: سبق أن كان تشكل مجلساً للثورة بقيادة الأمير إبراهيم كامل .. وفى إجتماع هام لهذا المجلس حضره عرابى تقرر إستمرار المقاومة.
 
منح عرابى القوات بضع ساعات من الراحة بناءاً على معلومات مضللة تلقاها من أحد قواده الخونه .. إستغلها القائد الإنجليزى .. وهجم على القوات النائمة فى منطقة التل الكبير فكانت مجزرة وليست معركة بل كانت أحط عمل وأشد نذالة وخسة يمكن أن يرتكب ضد أى شعب يدافع عن أرضه وكان ذلك فى يوم 13 سبتمر 1882 .
 
شاهد أيضا
 
 
 
 
 
هكذا إنتهت الحرب بمأساة مجزرة التل الكبير ج .. أعقب ذلك فى 14 سبتمر 1882 إحتلال قائد الخيالة الإنجليزية القلعة. 
 
ومن ثم تم إحتلال العاصمة (القاهرة) فى 15 سبتمر 1882. 
 
إستكمل إحتلال مصر .. وعلى الفور بدأ تصفية الثورة والتى إستغرقت عملية التصفية قرابة الشهريين.
 
هكذا أصبحت مصر منذ هذا التاريخ فى مركز غير مستقر فبينما كانت بلداً مستقلاً إستقلالاً داخلياً .. فإذا بمصر بلداً محتلاً بالجنود البريطانيين .. الذين دخلوا مصر بحجة إخماد الثورة العرابية .. حيث قال الإنجليز .. إن وجود قواتهم فى مصر هو وجود مؤقت بغرض تأيد وحماية عرش الخديوى توفيق .. حيث خرج عليه عرابى وأعوانه.
 
( والحقيقة أن هذه القوات وهذا الإحتلال إستمر بمصر رغم إستباب الأمر للخديوى  أكثر من سبعين عاماً).
وبمجرد إكتمال إحتلال مصر كانت فاتحة أعمالهم هى :
محاكمة عرابى والعرابيين. 
حل الجيش المصرى الذى إئتمر بإمرة عرابى .. وحارب الإنجليز. حيث قال الإنجليز فى تقرير للخديوى (إن مصر لا تحتاج إلى جيش بمعنى قوة عسكرية منظمة وكثيرة لأن الصحراء تحدها من ثلاث جهات وتتكفل بحمايتها) .. كما يفتقر الجيش المصرى للضباط الأكفاء.
 
فصدر مرسوم الخديوى بحل الجيش المصرى وتسريح الجنود والتحفظ على الضباط حتى يفصل فى أمرهم.
 
إنشاء جيش جديد بقيادة سردار إنجليزى يرأسه مجموعة من الضباط الإنجليز بمرتبات عالية .. على أن تتركز القيادة العليا للجيش فى يد الخديوى.
 
إسناد مهمة الأمن فى القاهرة والإسكندرية إلى رجال بوليس أوربيين مع وضع قوات البوليس عامة تحت إشراف مفتش عام إنجليزى يساعده ضباط إنجليز .. وكذلك مضاعفة أعداد القوات فى المدن الأخرى .. وكانت الحجة هى فشل البوليس المصرى فى حماية الأجانب فيما سمى مذبحة الإسكندرية.
 
تعيين محامى إنجليزى فى وظيفة النائب العام والمستشار القضائى .. ولكى يشرف أيضاً على تطهير القضاء .. وطبعاً كان المقصود التخلص من القضاة المرتبطين بالحركة العرابية.
 
تعيين كولونيل إنجليزى ليكون مفتشاً عاماً للرى المصرى يتولى تدبير وتوزيع المياه.
 
وأخيراً حل مجلس النواب .. على أن يعتقل كل من شارك فى العصيان (من وجهة نظرهم بالطبع) .. أو حرض عليه من الأعضاء ومحاكمتهم .. وأن يلزم الباقون قراهم ودوائرهم.
 
حل الحزب الوطنى المصرى
وبالطبع بعد أن إستطاع الخديوى توفيق من العودة للقاهرة فى حماية القوات البريطانية .. وبعد تمت الإجراءات السابقة .. أكبر حركة يقودها الخديوى والإنجليز للثواب والعقاب كما سماها المؤرخون.
 
الثواب لمن عدهم من الموالين له وكان على رأسهم محمد سلطان باشا .. فقد أنعم عليه الخديوى بأكبر وسام مكافئةً له على بث خيانة عرابى وكذلك بث روخ الخيانة فى الجيش .. كما منحه عشرة آلاف جنيهاً ذهبياً. 
 
وأيضا الإنعام بالناصب على كل من ساهم فى خيانة عرابى وكذلك بث الفتنة فى الجيش المصرى.
 
أما العقاب فكان أولاً من نصيب الجيش بإعتقال جميع الضباط .. وكذلك إعتقال جميع العلماء وخطباء المساجد والتجار والأعيان إلا من كان من الجواسيس والمنافقين .. فقد كان القبض على الناس بغير حساب ولا رقابة من قانون أو عرف.
 
بالطبع كان عرابى من أوئل من ألقى القبض عليه .. وضع أولاً فى قشلاق عابدين ثم إلى سجن الدائرة السنية ثم إلى سجن عام .. وبدأت أكبر حملة إهانة له .. وكذلك بدأ إرسال فرق متخصصة لإهانته.
 
وبدأت محاكمة عرابى أو بالأصح المهزلة .. حيث شكلت لجنة التحقيق فى 10 أكتوبر 1882 إستغرق عملها ثمانى جلسات تحقيق إمتدت قرابة الشهر.
 
وأثناء المحاكمة إستطاعت السلطات أن تحضر أحد أعوان عرابى (سليمان بك سامى) الذى كان قد هرب إلى جزيرة كريت عندما فشلت الثورة .. وتم الإتفاق معه على أن يكون شاهد إثبات .. يشهد فى المحاكمة بالآتى : 
 
(بأنه قام بإحراق الإسكندرية بأمر من عرابى .. وأن عرابى أيضاً أرسله إلى قصر الرمل لقتل الخديوى .. وأنه قابل أثناء ذهابه إلى قصر الرمل كل من سلطان باشا و حسن باشا الشريعى .. فلما شاهدهما .. تراجع وندم على ما كان مقدماً إليه .. وأعترف لهما بما كان مقدماً عليه .. وعاد من حيث أتى.
 
ولما واجهت اللجنة سليمان سامى بمن إستشهد بهما فى روايته .. أنكرا الأثنين بشدة هذه الرواية .. هكذا لم يتبقى أمام اللجنة إلا إتهام عرابى ب (العصيان) وبالتالى أحالت اللجنة عرابى للمحكمة العسكرية بتهمة عصيان أوامر الخديوى .. بعد أن فشلت كل محاولات الإنجليز والخديوى والسلطان العثمانى فى تلفيق تهم مذبحة الإسكندرية وحرق الإسكندرية والتحريض على قتل الخديوى له.
 
وقد سمح لعرابى بإثنين من المحامين الإنجليز للدفاع عنه. 
 
جهزت قاعة مجلس النواب لإنعقاد جلسات المحكمة العسكرية وزودت لأول مرة بمقاعد للجمهور .. وفى 3 ديسمبر 1882 بدأ تمثيل المهزلة.
 
فالجلسة المهزلة لم تستغرق إلا عشر دقائق.
إزدحمت القاعة بالجمهور ودارت المحاكمة كالآتى :
رئيس المحكمة : أحمد عرابى باشا أنت متهم الآن  أمامنا بناء على قرار لجنة التحقيق بجريمة عصيان سمو الخديوى .. فهل أنت مذنب أم غير مذنب ؟ عرابى : إن محامى سوف يرد عنى.
وقام المحامى وتلا إعتراف عرابى الذى قال فيه ( كيف أقول أنى عاص ؟ ألم أفعل ما أمر به السلطان والخديوى ؟ - "يقصد قيامه بالدفاع عن الوطن ضد أجنبى معتدى" -  وإذا كان الخديوى قد إنحاز إلى الإنجليز فهل أسمى أنا عاصياً لأنى إطلعت – نفذت – إرادة الأمة المصرية).
أجل رئيس المحكمة الجلسة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر.
وعند الإنعقاد الثانى تغير الحكم الذى كان قد إتفق عليه بين أطراف المهزلة ..  السلطان والإنجليز والخديوى.
فبعد أن كان الحكم  يقضى ب إعدام عرابى إستبدل ب النفى المؤبد. 
فتقدم المهنئون إلى عرابى وتزاحم عليه مراسلو الصحف مصافحينه .. وقدمت له بعض السيدات الأوربيات باقات من الزهور .. فتقبلها عرابى شاكراً.
عاد عرابى إلى سجنه فصلى وشكر الله.
وفى 8 سبتمر 1882 إتفق على أن يكون النفى إلى جزيرة (سرنديب) بسيلان التى تسمى الآن ب سريلانكا   .. ولما أبلغ عرابى بذلك قال 
(إنى أخرج من مصر بستان الدنيا لأذهب إلى سرنديب جنة آدم) معتمداً فى ذلك على قصة هبوط آدم من الجنة .. حيث تقول القصة أنه هبط من السماء إلى جزيرة سرنديب .. فصارت تعرف بجنة آدم .. وفى نفس القصة القديمة أن حواء هبطت فى الحجاز فصارت تعرف بجنة حواء.
 
فإستبشر عرابى خيراً .. وكتب فى رسالة قبل أن يغادر (إنى أغادر مصر مقتنعاً كل الإقتناع أنه كلما ملات الأيام إتضح للعالم عدالة قضيتنا شيئاً فشيئاً وسوف لا تندم إنجلترا على ما أظهرت من إنسانية وتسامح إزاء رجل حاربها وحاربته) .. وهو يقصد هنا موقف الإنجليز من عدم إعدامه والإكتفاء بنفيه.
 
وهنا أترك لكم الرأى فى أحمد عرابى الذى تباينت فيه الأراء وإختلفت من جيل لآخر.
فهل كان عاصياً وتسبب فى إحتلال الإنجليز لمصر ؟
أم كان وطنياً .. وبطلاً مصريا نفذ إرادة أمته ودافع عن شرفها ؟ 
أما على الجانب الآخر فكان الخديوى توفيق .. الذى لن أحاول تقييمه لكم فقد سمعتم منى كيف كان موقفه من الإنجليز وكيف تآمر معهم وساعدهم فى إحتلال البلد الذى يحكمه .. وهنا سأترككم مع رأى والده الخديوى إسماعيل الذى كان شديد الإزدراء والإحتقار له .. حيث قال ذات يوم للقنصل الإنجليزى قبل عزله عن الحكم :
(إنه أمير أى توفيق يحمل نفسية العبد .. ويفتقر إلى العقل والقلب والشجاعة .. وقد كان يتآمر مع القناصل ضدى).
تلك كانت المقابلة بين هذا الزعيم وبين هذا الحاكم.
 
هكذا أسدل الستار بختام حزين على حلقة من ثورات الشعب المصرى بقيادة أحمد عرابى وثلة من الوطنيين الأحرار .. لكن من المؤكد أنه ستبدأ حلقة أخرى منبثقةً من الثورة العرابية ومن رمادها الحزين .. حيث تبلورت حركة مصطفى كامل .. التى ولدت من رحمها  ثورة الشعب المصرى فى عام 1919.