اكتشفت مصر فجأة أنها ظلت فعليًا وواقعيًا تدفع جزية للحكومة التركية حتى سنة ١٩٥٥ - أى حتى السنة السابقة مباشرة لحرب السويس.

 
حتى بعد إعلان الحماية البريطانية سنة ١٩١٤، وسقوط أى أثر للسيادة العثمانية على مصر، بل ودخول مصر طرفًا فى حرب معلنة ضد تركيا..
حتى بعد ثورة ١٩١٩، وتصريح سنة ١٩٢٢، ومعاهدة سنة ١٩٣٦...
 
حتى بعد ثورة سنة ١٩٥٢ واتفاقية الجلاء سنة ١٩٥٤ ومعركة الأحلاف المريرة التى كانت تركيا طرفًا أساسيًا فيها ضد مصر...
حتى بعد هذا كله، وإلى سنة ١٩٥٥ سنة مؤتمر باندونج، وسنة معركة كسر احتكار السلاح- ظلت مصر- وبانتظام قاتل- تدفع للحكومة التركية جزية سنوية، وتدفعها بالنقد الأجنبى، بالجنيه الإسترلينى الصعب يومها والغالى.
 
ومنذ سنة ١٩١٤ الوقت الذى كان يجب أن يسقط فيه التزام مصر بدفع الجزية لتركيا وحتى سنة ١٩٥٥ التى ظلت مصر تدفع إلى نهايتها- أى لمدة أكثر من أربعين سنة، دفعت مصر مبلغ ٢٣ مليونًا و١٧٤.٩٨٤ جنيهًا إسترلينيًا بغير حق، بغير مبرر أو سند لتركيا.
 
ووزارة الخزانة المصرية التى اكتشفت الحقيقة المروعة وبمحض الصدفة تقدر أنها لو احتسبت على هذا المبلغ فوائد بمقدار خمسة فى المائة لكان معنى ذلك أن تركيا عليها أن تسدد الآن لمصر أكثر من سبعين مليون جنيه إسترلينى حصلت عليها تركيا، أصلًا وفوائد، من عمل الشعب المصرى وقوت يومه!
 
وكانت الحقيقة المروعة هناك طوال الوقت، لكن أحدًا لم يكتشف وجودها.
 
وتعاقب على نظارة المالية أو وزارة المالية بعد ذلك، ثم وزارة الخزانة بعد ذلك عشرات من أساطين السياسة والمال- قبل ثورة ١٩٥٢ وبعدها بثلاث سنوات- ومع ذلك فإن أحدًا منهم لم يتوقف لحظة أمام الاعتماد الذى تسدد منه الجزية لتركيا، ويسأل نفسه:
- هل هذا معقول...؟ وأى مبرر له أو سند؟
والمذهل أن مصر لم تتوقف عن الدفع إلا بعد أن انتهى التزامها به تنفيذًا لأمر صادر عن الخديو توفيق- الصديق المشهور للاحتلال البريطانى- موقع بتاريخ ٣٠ مايو ١٨٩٤.
وربما، لو لم يكن الالتزام موقوتًا بستين سنة لاستمرت مصر إلى اليوم تدفع بنفس الانتظام القاتل وبالإسترلينى الصعب عليها والغالى!
 
ولقد يسأل سائل:
- أليس غريبًا أن سلطة الاحتلال البريطانى، القوة الحاكمة الوحيدة فى مصر بعد سنة ١٨٨٢، قبلت بأن تواصل مصر دفع الجزية لتركيا حتى فى الفترة ما بين ١٩١٤ و١٩١٨.. فترة حربها العالمية الطاحنة ضد الإمبراطورية العثمانية وحلفائها؟
والرد الذى تعطيه وثائق الحكاية المذهلة هو أن الحكومة البريطانية قبلت استمرار الدفع بل وتحمست له، لأن مصر كانت تدفع لبنك «روتشيلد» البريطانى!
 
كانت الحكومة العثمانية قد استدانت منه قرضًا اتفقت على سداده فى مدى ستين عامًا بضمان الجزية التركية على مصر، وطلب بنك «روتشيلد» تعهدًا من خديو مصر بأن تدفع له مباشرة جزية مصر لستين سنة.
 
وكان أمر الخديو فى ٣٠ مايو سنة ١٨٩٤.
واستمرت مصر تدفع لبنك «روتشيلد» حتى سنة ١٩٥٥
 
مصدر المعلومات: 
مقال محمد حسنين هيكل «بصراحة». جريدة «الأهرام» ١١ ديسمبر ١٩٦٤، وكتاب عبدالفتاح أبو الفضل «كنت نائبًا لرئيس المخابرات»