زاهي حواس
شهدت مصر، على مدار تاريخها الضارب فى أعماق الزمن، بناء أول عاصمة سياسية لدولة موحدة فى تاريخ الأرض. كان ذلك فى عصر الملك حور عحا، المعروف بالملك مينا، فى حوالى ٣١٥٠ قبل الميلاد، أى قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. كان السبب الذى دعا الملك الصعيدى إلى بناء عاصمة جديدة لمصر الموحدة هو رغبته فى بداية عهد جديد وروح جديدة يستنهض بها إمكانات مصر غير المحدودة لكى تواصل دورها كأمة متحضرة ومتقدمة. ولذلك اختار الملك مينا موقعًا عبقريًّا ومتميزًا عند نقطة تلاقى الدلتا والصعيد، بالقرب من المنطقة المعروفة اليوم بقرية ميت رهينة. أطلق المصريون القدماء على عاصمتهم الجديدة اسم «إنب حدج»، بمعنى الجدار الأبيض، حيث كان يحيط بالعاصمة الجديدة سور ضخم، تم كساء سطحه الخارجى بالملاط الأبيض، الذى كان يشع نورًا بانعكاس أشعة الشمس عليه.

شهدت العاصمة ذات الجدار الأبيض الكثير من التوسعات والإضافات، ومع بداية الأسرة الفرعونية الثالثة أصبحت منف (الجدار الأبيض سابقًا) هى العاصمة الكبرى والعظمى بين عواصم العالم القديم.

لقد انتقلت عاصمة مصر إلى أكثر من مكان شمالًا وجنوبًا، حتى إننا يمكننا أن نُحصى عشرين عاصمة لمصر، تبدأ بـ«إنب حدج»، وتنتهى بـ«القاهرة». وكما ذكرت، استغرقت هذه الرحلة أكثر من خمسة آلاف سنة، ويبدو أن هذه الرحلة مستمرة!، فقبل سنوات، وتحديدًا فى عام ٢٠١٥، أعلن الدكتور مصطفى مدبولى، وكان وقتها وزيرًا للإسكان، عن نية الدولة المصرية فى بناء عاصمة جديدة، وهى التى بدأ بناؤها بالفعل منذ عام ٢٠١٦، وباتت مراحلها الأولى على وشك الانتهاء، بل تم بالفعل نقل جزء من الهيئات الحكومية إليها. ومنذ تاريخ الإعلان عن إنشاء عاصمة جديدة وإلى يومنا هذا، والمصريون يطلقون عليها اسم العاصمة الإدارية الجديدة اسمًا مؤقتًا، إلى أن يتم الإعلان رسميًّا عن اسم لعاصمة مصر.

والغريب فى أمر هذه العاصمة الجديدة أنه، ولأول مرة، لم يسأل الناس سواء بمصر أو خارجها عن السبب فى إنشائها!، فالجميع يعرفون أن مدينة القاهرة تتبوأ مكانة متقدمة بين أكثر دول العالم ازدحامًا بالسكان، الذين تخطى عددهم عشرين مليون نسمة، بما يساوى عدد سكان أكثر من عشرين دولة حول العالم، لا يتجاوز عدد سكان كل واحدة منها المليون نسمة!، والخطير، بل المفزع، فى الأمر هو أن عدد سكان مدينة القاهرة مرشح لأن يتضاعف فى السنوات المقبلة إذا سارت وتيرة المواليد بالبلاد والهجرة الداخلية بنفس نسبها المرتفعة حاليًا. ولذلك يعلم الجميع أن ما كان يتم بمصر منذ سنوات من بناء مجتمعات سكنية خارج القاهرة لم يكن سوى مجرد مُسكِّنات لمرض ظل يتوحش حتى بات يخنق القاهرة وسكانها. ولم يكن هناك من حل جذرى سوى بناء عاصمة جديدة لمصر بها يتم إنقاذ مدينة القاهرة، ليس هذا فحسب، بل تعطينا الأمل فى أن إعادة جمال القاهرة المُعِزِّية والقاهرة الخديوية شىء ممكن حدوثه. وكأحد المتخصصين فى علوم الحضارات، أستطيع أن أُبشر المصريين بأن عاصمتهم الجديدة ستفتح الباب أمام عصر وروح جديدة نحتاجها بشدة لنتمكن من وضع بلادنا فى مكانها اللائق بين بلدان العالم.

تبدأ قصتى مع العاصمة الجديدة منذ لحظة ميلادها، وقد تعمدت فى كل محاضراتى الخارجية أن أقوم بنشر أخبار ما تم الانتهاء من بنائه وما يجرى إنشاؤه بالعاصمة الجديدة لكى يعلم الأجانب أن مصر قادرة على البناء، وأن البلاد آمنة مستقرة، بدليل أننا نبنى عاصمة جديدة ستكون بها بالمراحل الأولى أكثر من ٢٥ حيًّا سكنيًّا وحى للسفارات، ووسط المدينة مخصص لناطحات السحاب والمراكز المالية والإدارية، إضافة إلى الحى الحكومى ومقرين لمجلسى النواب والشيوخ وأكثر من ٦٠٠ منشأة طبية وعيادات متخصصة وأكثر من ألف مسجد وكنيسة ومدينة رياضية ومدينة للفنون والثقافة بها دار للأوبرا ومسارح ودُور عرض ومكتبات ومراكز ثقافية، ولعلنى نسيت أن أخبركم بأن العاصمة الجديدة سيكون بها استاد رياضى ضخم يسع ٩٠ ألف مشجع رياضى، إضافة إلى صالات مغطاة وأخرى مكشوفة تضم جميع الألعاب الرياضية. ولعلنى كذلك نسيت أن أخبركم بأن للعاصمة الجديدة مطارًا دوليًّا يربطها بكل عواصم العالم. أما المدهش حقًّا أنه، رغم ما نتحدث عنه كمشروع قومى حضارى، هو الأضخم حاليًا فى العالم، فإنه لم يستفز المشاعر والهمم بالشكل الكافى، ربما لأسباب كثيرة، منها أن الرئيس عبدالفتاح السيسى، منذ اليوم الأول لتوليه رئاسة مصر، وهو يقوم بالعمل فى كل رقعة بمصر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. وقد بات يصعب على أى كاتب إحصاء تلك المشروعات، وتصنيفها ما بين مشروعات تصب فى البنية التحتية، من محطات طاقة من مصادر مختلفة: كهرباء، ورياح، ومحطات طاقة شمسية، ونووية فى الطريق، وتغيير ومد شبكات مياه وصرف وإنشاء محطات عملاقة للصرف الصحى والمياه، إضافة إلى محطات لتحلية المياه، ومن مشروعات البنية التحتية مشروعات مد الطرق والمحاور الجديدة والتوسعات على الطرق الدائرية. ونكاد نكون قد أنشأنا فى سنوات قليلة عدة آلاف من الكيلومترات من الطرق الجديدة، وهو ما لم يتم إنشاؤه على مدى عقود ماضية، إضافة إلى الانتقال لمرحلة النقل الذكى بقطارات كهربية سريعة وخطوط مترو أنفاق جديدة وغيرها من وسائل المواصلات الذكية، إلى جانب تحديث خطوط السكك الحديدية باستثمارات ضخمة. نأتى إلى مشروعات أخرى خاصة بالقضاء على العشوائيات بمصر، وليس بمدينة القاهرة فحسب، وإلى جانب نقل ملايين من الناس إلى مجتمعات حديثة تتوافر بها سبل العيش والحياة الكريمة لهم ولأبنائهم، رأينا الرئيس يفتتح المدن الصناعية الجديدة، وبها مصانع عملاقة، لم نكن نحلم بوجودها فى بلادنا، وإلى جانبها، رأينا نقلًا للمجمعات الصناعية الخطرة من مدابغ وورش الرخام بشق الثعبان وورش الفخارين بالفسطاط إلى مجمعات صناعية حديثة. ولا داعى للحديث عما تم فى القطاع الطبى فى مصر من تطوير ونقلة نوعية يشهد لها ملايين المصريين، ولكن يبقى هناك الأمل فى برنامج حياة كريمة، الذى ينفذ مشروعات فى أكثر من أربعة آلاف قرية مصرية، ويمس بشكل مباشر أكثر من نصف سكان مصر. ونعلم ما تمت إضافته إلى الأرض الزراعية وما تم إنشاؤه من مشروعات زراعية كمشروع الصوبات العملاق، وتبطين الترع والقنوات، وكذلك مشروعات تطهير البحيرات الشمالية ومشروعات الاستزراع السمكى، وكلها مشروعات أتت بنتائجها وثمارها، ولا تقل أهمية عن مشروعات مثل أنفاق قناة السويس وقناة السويس الجديدة والموانئ البحرية الحديثة.

المهم أن ما ذكرته هنا، وهو مجرد جزء بسيط لما حدث ويحدث على أرض مصر، كانت له نتيجتان سلبيتان، الأولى هى أن تلك النهضة الإنشائية والتعميرية فى كل المجالات، وبدون استثناء، أطاحت بعقول جماعة الشر، التى جن جنونها وسلطت عملاءها وأذنابها بكل مكان بالعالم للنَّيْل من تلك النهضة الحقيقية، وليس نهضة الفنكوش تبعهم. لم تتعرض أى دولة بالعالم كله لما تعرض ويتعرض له بلدنا مصر من حملات عدائية هدفها تشويه مصر وتصدير الإحباط للشعب المصرى، الذى هو الوحيد مَن يدفع فاتورة الإصلاح وليس هؤلاء الخونة. أما النتيجة العكسية الثانية، التى حالت دون تسليط الضوء على مشروع قومى بحجم العاصمة الجديدة، فهى أن الإعلام سواء المصرى أو الأجنبى أصبح يلهث وراء مئات، بل آلاف المشروعات، ولا يجد الوقت الكافى للتركيز على تغطية متميزة لواحد من المشروعات العملاقة بمصر. ولذلك أقول إنه لو كانت العاصمة الإدارية وحدها هى المشروع الوحيد للقيادة السياسية فى مصر لكانت هناك الآن قصائد شعر لشعراء عن تلك المدينة الجديدة، وعشرات الأغانى الحماسية عن العاصمة الحديثة، ومئات البرامج الإذاعية والتليفزيونية ومثلها على وسائل التواصل الاجتماعى عن عاصمة مصر الجديدة. ولكن لأنها ليست وحدها، ولأن هناك مئات المشروعات فى كل ركن بمصر، لم يأخذ أى مشروع بمصر حقه الكافى للتعريف به، ولطمأنة الناس أن بلدهم يتقدم وأنه يسير على الطريق الصحيح. وعلى الرغم من ذلك، أصبح المصريون أنفسهم حَكَمًا عدلًا لما يحدث فى بلدهم، فهم شهود عيان وعدل لما يرونه من حولهم من تغيير ملموس وواقع جديد نعيش فيه.

ولأننى مهتم بتتبع ودراسة كل عواصم مصر، على مر عصورها القديمة والحديثة، سنبدأ معًا بإذن الله فى الأسبوع القادم الحديث عن عاصمة مصر الجديدة أو ما نعرفه مؤقتًا باسم العاصمة الإدارية الجديدة.
نقلا عن المصرى اليوم