عاطف بشاي
استكمالًا لما طرحناه في المقالين السابقين من تعجبنا من أمر هجرة بعض صفوة كُتابنا عن الاستمرار في الإنجازات الإبداعية البراقة، التي برزت في بداياتهم اللامعة والمبهرة في عالم الأدب، واتجاهاتهم إلى مجالات أخرى مثل الكتابة الصحفية السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية، وتناولت تحولات الكاتبين الكبيرين «أحمد بهجت» و«صلاح حافظ» عن القصة القصيرة.. أتناول في هذا المقال رحلة الأديب والمفكر الدينى المرموق «مصطفى محمود»، الذي تخرج في كلية الطب بقصر العينى (1952)، والذى بدأ أيضًا كما هو الحال مع «بهجت» و«حافظ» مشواره بالقصة القصيرة، ونشر عددًا منها منذ عام (1947) في مجلة الرسالة الأسبوعية، ثم صدرت له أول مجموعة قصصية، هي «أكل عيش» في سلسلة الكتاب الذهبى (1954).

وتلاها بـ«عنبر 7» و«شلة الأنس»، مرورًا بـ«رائحة الدم» و«الطوفان»، بالإضافة إلى روايات مهمة مثل «المستحيل» و«الأفيون» و«العنكبوت» و«الخروج من التابوت» و«رجل تحت الصفر».. ورغم ذلك، فقد جذبته الصحافة، فاستقال من مهنة الطب (60)، ومارس في «روزاليوسف» و«صباح الخير» الكتابة الصحفية.. والرد على مشكلات القراء في بابى «اعترفوا لى» و«اعترافات عشاق»، واستغرقته تمامًا كتابة المقالات في مختلف مناحى الحياة.. وناقش من خلالها قضايا فكرية وفلسفية ودينية عميقة، ثم جمعها في عدد كبير من الكتب (80 كتابًا)، كان أولها كتاب «الله والإنسان» (1957)، الذي تضمن أفكارًا، تراجع عنها في رحلته الطويلة من «الشك إلى الإيمان».. وصودر الكتاب.. ثم رُفع الحظر عنه فيما بعد دون دعوى بالاتهام بالكفر، وخرجت فتوى دار الإفتاء وقتها تؤكد أن الكاتب عُنى بتمجيد العقل والعلم والحرية وإظهار أثرها في تقدم الفرد والأمة.. وأنهى الشيخ «حسن مأمون» فتواه وقتها بعبارة: «نسأل الله لهذا الكاتب وأمثاله الهداية والرجوع إلى الحق، فالرجوع إلى الحق فضيلة.. والله أعلم».

ومن هنا يمكننا القول إن بداية مرحلة كتابات «مصطفى محمود»- بعد تراجعه عن أفكاره التي شملها كتابه «الله والإنسان»- امتدت إلى السبعينيات بغزارة وتنوع، وشملت كتبه البديعة «لغز الحياة ولغز الموت» و«الماركسية والإسلام» و«الوجود والعدم» و«أكذوبة اليسار الإسلامى».. بالإضافة إلى مواظبته على كتابة المقالات النقدية اللاذعة.. ومنها مقال كتبه في بداية السبعينيات، يمثل بالنسبة لى ذكرى طريفة.. فقد قررت أن أشن حربًا ضده، وأنا مازلت مراهقًا في العشرين من عمرى.. ذلك أنه هاجم المدرسة السيريالية في الفن التشكيلى بمقال له في مجلة «صباح الخير» هجومًا عنيفًا، ووصفها بأنها مجرد «شخابيط» لفنانين مأفونين أو أفاكين يضحكون على المتلقين.. فقررت أن أكتب مقالًا ناريًّا أتهمه فيه بالجهل الفنى.. وأستنكر أن مؤلفًا كبيرًا مثله يتصدى بالكتابة فيما لا يعلم.. ومدى خطورة تأثير ذلك على القراء، الذين يثقون في علمه ويؤمنون بأفكاره.. ماله هو ومال النقد التشكيلى، وكيف يجرؤ على السخرية من «سلفادور دالى» و«بيكاسو»؟!.

اتجهت بالمقال إلى الأستاذ «لويس جريس»، رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» في ذلك الوقت.. فاستقبلنى بود وتواضع جم.. وأكد لى أن حق الاختلاف مكفول للجميع في مجلة القلوب المتحررة والعقول المتفتحة. أشعرنى أنى مفكر كبير وفيلسوف أريب لا أقل مكانة عن «ديكارت» شخصيًّا، فلما قلت له إن «ديكارت» رهن وجوده، ومن ثَمَّ فلسفته، على الشك، وشعاره «أنا أشك إذًا أنا موجود..»، بينما أنا لا أشك في تردى «مصطفى محمود» في خطأ فادح.. بل إنى متأكد من ذلك.. فقال لى: «حسنًا.. أنت فيلسوف، شعاره أنا متأكد إذًا أنا موجود..». المهم أنه وعدنى بالنشر فورًا في العدد القادم.. لكنى انتظرت أسبوعًا وراء آخر.. ولم يُنشر المقال.. ففكرت في كتابة مقال أهاجم فيه «لويس جريس»، أتهمه فيه بخداعى ومحاباة «مصطفى محمود» خوفًا من نفوذه كمستشار لرئيس دولة العلم والإيمان.. ثم عدلت عن ذلك، واتجهت بالمقال إلى صفحة الثلاثاء بجريدة «المساء»، وهى صفحة متخصصة في الفن التشكيلى.. يكتب فيها كبار النقاد التشكيليين في ذلك الزمن الجميل.. ونُشر المقال فأصابنى نشره بغرور عظيم الشأن.. وزاد من تورم ذاتى المنتفخة، وخاصة أن «مصطفى محمود» لم يرد علىَّ، كما توقعت، فأيقنت أننى أفحمته بقوة منطقى.. ودحرته برصانة حجتى.. أما والدى- رحمه الله- فقد قرر بروزة المقال وتعليقه على جدار في حجرة الضيوف، لكن والدتى رفضت رفضًا قاطعًا، حيث إنها كانت تؤمن بالحسد.

المهم أننى قررت أن أواصل الهجوم على «مصطفى محمود»، بل على كل كاتب لا يروقنى أسلوبه، متقمصًا شخصية «د. طه حسين» في بداياته، حيث كان يكتب مقالات نارية يهاجم فيها «المنفلوطى» هجومًا شرسًا وقاسيًا.. لكن خاب ظنى في نفسى بتوالى قراءاتى لمؤلفات «مصطفى محمود».. فإذا بى أقع في براثن حبه، منبهرًا بعمق فكره ونفاذ بصيرته وعلمه الواسع.. وبديع أسلوبه الأخاذ، الذي يتمتع ببلاغة وجاذبية آسرة، فالكلمات تتدفق في إيقاع ساحر.. والسرد ينساب في عذوبة وسلاسة ليتعانق مع طرحه العميق.. وحكمته الكبيرة ومنطقه المحكم في الكثير من القضايا الجدلية التي يتناولها.. وموضوعيته التي تشمل مجالات الفلسفة وعلم النفس والأدب والدين.. والفلك والسياسة.. لقد استولى على عقلى وحواسى وكيانى كله.. وصرت متأهبًا دائمًا للدفاع عن أفكاره، التي صارت أفكارى، لا الهجوم عليه طالما حييت.. وكنت وأنا طالب جامعى أقتطع من مصروفى الضئيل، وأشترى كتبه نسخة لى ونسخة لمحبوبتى.. منتهزًا الفرصة لأبثها ولهى من خلال إهداء رقيق أكتبه في الصفحة الأولى من الكتاب.. وكأن الكتاب من تأليفى، ثم اكتشفت بعد ذلك حماقة ما أقدمت عليه.. فالمرأة لا تحب الرجل قارئًا ولا كاتبًا.. ولا مثقفًا.. والدليل أن محبوبتى تزوجت من أول عريس جاهز ماديًّا صادفها.
نقلا عن المصرى اليوم