لم يكن ذلك بالأمر اليسير أن أترك أهلي الذين التفوا حولي، وخاصةً أن ناحور أخي تبعني بعد قليل، وهذا بالإضافة إلى أن حاران، التي سكنتُ بها مع أبي تارح بعد رحيلنا من أور الكلدانيين، لم تكن أرض جرداء أو ضيقة لا تسع وجودنا سويًا..
 
أما الآن بعدما مات أبي تارح، فما عليَّ إلا أن اُجاهر أنه من الواجب أن اُتمم ارادة الله وأن ارتحل إلى الأرض التي لا أعرفها، بعد تعطل دام خمسة عشر سنة. وباختصار، حالما جاهرت بهذا، حمل ناحور اتجاهي حملة شعواء، مرة قائلًا «وما يعيقك هنا من تتميم ارادة الله في حاران؟!.. ألم يكفيك ارتحال أبيك وهجره كل ما له في أور؟!» واخرى قائلًا: «يا أخي! عبور الصحراء ليس بأمر يسير.. الأخطار تنتظرك تعقل.. لِما تُعرض نفسك لسخط وغضب الاخرين؟» وأمام هذا التوبيخ القاسي والتعنيف الشديد ما كنتُ أتكلم ولا أرد بشئ سوى مُصليًا ومُرددًا في أعماقي: «ولكن الرب قد تكلم.. الرب قد وعد»
 
وبعد حوار صعب، أسدل الليل ستاره على البشرية لتهدأ ولكن لحرب الأفكار أن تستيقظ وتواجهني، وعندما هممت واختليت بنفسي، شعرت أنه قد خارت قواي، وساورتني عوامل اليأس، وعندئذ قررت ألا أفكر في الصعوبات أو المكان..
 
وفي الفجر، بدأ الركب في المسير، وسارت الجمال في الطليعة، محملة بأحمالها الثقيلة، وورائها سائقوها، ثم تبعتها قطعان المواشي، الوفيرة العدد، وإذ بدأت تتحرك، اختلط صراخ النسوة بتحيات الرجال المودعين. أما الركب نفسه، فقد بدت فيه عوامل الفزع والخوف في قلوب جميع أفراده، كنت أرى في عيون سارة وقد هانت عزيمتها، وفي عيون أهلي مشاعر عنوانها: «لماذا هذا الدرب من الغموض يا ابراهيم؟» أما أنا فقد وضعت في قلبي ألا أتردد وألا أضعف «ولا بعد إيمان ارتاب في وعد الله» إذ كنت «عالمًا بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم» لأنني بإختصار تيقنت أن ما وعد به هو قادر أن يفعله. «وَكَانَ أَبْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ.» (سفر التكوين12: 4(.