القمص يوحنا نصيف
    تعوَّد الشعب القبطي على إقامة صلوات في اليوم الثالث لانتقال أقاربهم، وأيضًا إقامة تذكار في يوم الأربعين وتذكار سنوي بعد ذلك.. لأنّ إيمان الكنيسة المقدّسة أن المنتقلين إلى السماء لم ينفصلوا عن جسد المسيح، وتربطنا بهم روابط المحبّة.. فنطلب من أجل نياح نفوسهم باستمرار في صلواتنا.

    وقبل حوالي أربعين سنة، كانت تُقام في ذِكرى الأربعين صلوات تجنيز بعد الظهر؛ وهي تُشابه في ترتيبها صلوات التجنيز التي تُصَلَّى عند الوفاة، بحيث توضَع صورة للمتوفّى في جنّاز الأربعين بدلاً من الصندوق الذي يحوي الجثمان في صلاة التجنيز..

    وقد أوقفت الكنيسة هذا النظام في أوائل الثمانينيّات، واستبدلته بالقُدّاس الإلهي في صباح يوم الأربعين، ويتمّ فيه ذِكر اسم المتوفّى في صلاة ترحيم بعد المجمع.. وقد رأت الكنيسة أنّ القدّاس يكون فيه بركة وتعزية أكبر من مجرّد صلاة صغيرة مُعَادة بعد الظهر؛ ولا سيّما أن هناك فرصة للجميع (أسرة المُنتقِل وجموع المُعزّين) للتناول من الأسرار المقدّسة التي هي حياة أبدية مجّانية موهوبة لأولاد الله، وفيها كلّ الفرح والعزاء والشبع الحقيقي..

    كما أن هناك عادة لطيفة بدأ الكثيرون في اتّباعها، وهي توزيع إنجيل أو أجبية أو أيقونة أو تسجيل لعظة أو قدّاس مع دعوة التذكار، وفي هذا فائدة وبركة..

    يتبقّى فقط ثلاث ملاحظات على قُدّاسات التذكارات من المهمّ أن نتعرّض لها بالتوضيح لكي تكتمل الفائدة:
الملاحظة الأولى: الوقوف خارج الكنيسة أثناء القدّاس لاستقبال المُعزّين وتوديعهم، وبالتالي إهمال صلاة القُدّاس..
الملاحظة الثانية: الإصرار على أن يُقام قداس التذكار بالمذبح الأوسط للكنيسة..!

الملاحظة الثالثة: التصميم على أن يكون القدّاس خاصًّا فقط بأهل المتوفَّى والمعزّين، ولا يحضره أشخاص آخرون، ولا يُذكَر به أيّ منتقلين آخرين..!
    لنناقش معًا هذه الملاحظات الثلاث:

    أولاً: الوقوف خارج الكنيسة أثناء القدّاس لاستقبال المُعزين وتوديعهم. وإهمال صلاة القدّاس..
    هذا خطأ خطير وشائع، اعتاد عليه البعض. وهذا بالطبع لا يليق بالقداس الإلهي أبدًا؛ أن نهمله ونقف خارجًا أثناء وجود المسيح على المذبح.. وكأننا نُحوِّل الكنيسة إلى سرادق عزاء، نحن نقف خارجًا على بابه..!

    وأحيانًا يكون المَنظَر مُعثِرًا بشكل أكبر إذ نجد من أصحاب التذكار مَن هو جالس على باب الكنيسة يأكل أو يدخِّن، وعندما يحضر أحد المُعزين يقفون للسلام عليه وتقبُّل العزاء منه.. ثم يجلسون ثانية وينشغلون بالكلام في أيّ موضوع..

    هذا الوضع يكشف عن أناس لا يهتمُّون بالعزاء الإلهي والسلام القلبي الذي يحصل عليه مَن يصلِّي صلاة القداس ويسمع الكلمة الإلهية، ويكتفون بتعزية البشر دون تعزية الروح القدس.. كما أنّه يُعبِّر عن أنّ اهتمامنا هو فقط بالمظاهر؛ أنّنا أقمنا للمتوفّى تذكارًا وقدّاسًا دون أن نُدرِك قيمة القدّاس، أو نحاول الاستفادة منه لحياتنا.. وهذا التصرُّف لا يليق بأولاد الله أو بأبناء الكنيسة الواعين..!

    أمّا التصرُّف السليم فهو أن يقف أهل المتوفى، قبل القداس وبعده، في صفّ خارج الكنيسة لتقبُّل العزاء وشُكر المعزين. أمّا أثناء القداس فيليق بالجميع الوقوف بخشوع داخل الكنيسة والتركيز على الصلاة فقط.. ويمكن في الضرورة القُصوى تقبُّل العزاء بعد العظة على باب الكنيسة في حالة ما إذا كان هناك من سينصرف من المُعزّين بعد العِظة.. ثم العودة بسرعة لصفوف الكنيسة لمتابعة الصلاة.. حتى ينتهي التناول من الأسرار المقدّسة.. وهكذا يتحقق الهدف من إقامة القدّاس، ويستفيد الجميع فائدة روحية عظيمة ويحصلون على تعزيات السماء..!

    ثانيًا: الإصرار على أن يُقام القدّاس بالمذبح الأوسط للكنيسة..
    يدخل هذا الطلب أيضًا في إطار الجهل والتفاخُر..

    * الجهل بطقس وإيمان الكنيسة المقدّسة الذي يؤكِّد لنا أن أيّ مذبح مكرّس لله له نفس كرامة المذابح الأخرى في الكنيسة أو أيّة كنيسة أخرى، ويمكن رفع الذبيحة الإلهية عليه.. وقد كان الكثيرون يشاهدون المتنيح البابا كيرلس السادس وهو يصلِّي في مرّات عديدة على المذابح الجانبية، بينما هو بطريرك الكنيسة.. فكلّ المذابح في كرامة واحدة..

    أما إذا كان هناك بعض الاعتبارات الأخرى، مثل كثرة عدد الآباء المدعوين للصلاة، واحتياجهم لمذبح كبير أو هيكل واسع، فهذه أمور يمكن الاتفاق عليها بمحبّة قبل يوم القدّاس بوقت مناسب..

    * ومن جهة التفاخُر بأنّ الصلاة تُقام على المذبح الأوسط الكبير، فهذا للأسف سلوك بعيد عن الاتضاع المسيحي، علاوة على أنّه لا يفيد المنتقل صاحب التذكار بشيء، "وكلّ افتخار مثل هذا رديء" (يع16:4)، لأنّ "مَن افتخر فليفتخر بالرب" (1كو31:1، 2كو17:10)..

    في الواقع أنّ الاهتمام بمثل هذه الأمور الشكليّة غالبًا ما يسحب التركيز بعيدًا عن جوهر العلاقة مع الله، فيأتي على حساب الاهتمام بالعبادة الروحية والعُمق في الصلاة، والرابطة القلبية السريّة مع المسيح أثناء القُدّاس الإلهي..!

    ثالثًا: التصميم على أن يكون القُدّاس خاصًا فقط بأهل المتوفَّي والمُعَزِّين، ولا يحضره أُناسٌ آخرون، ولا يُذكر به أي منتقلين آخرين..
    هذا الأمر أيضًا يكشف عن قِلّة فهم وقِلّة محبة..

    * قِلّة فهم لأنّ الفائدة بالنسبة للمنتقل وبالنسبة لنا لن تنقص إذا شاركنا أحد في الصلاة، بل بالعكس تزيد لسبب زيادة عدد المُصلّين. بالإضافة إلى أنّه ليس في سلطاننا أن نحتكر النعمة الإلهيّة لحسابنا فقط..!

    * أما عن قِلّة المحبّة، فلأنّ هذا الفِكر لا يليق بأولاد الله؛ الذين من المُفتّرَض أنّهم يتمتّعون بالقلب المُتّسِع.. كقول الكتاب: "أقول كما لأولادي كونوا أنتم أيضًا مُتّسِعين" (2كو13:6)..

    القلب المُتّسِع يفرح ويرحِّب بأيّ أحد يشاركه الصلاة، ولا سيّما إذا كانت ظروف الكنيسة لا تسمح بإقامة أكثر من قدّاس خصوصي في يوم واحد يتزامَن فيه وجود تذكارات لأكثر من منتقل.. فما أحلى أن يجتمع الكل بقلب واحد وروح واحد حول الحَمَل المذبوح الذي فتح أحضانه على الصليب ليتّسِع لكلّ البشرية، هكذا على المذبح ينسكب حبّه ليروي كلّ مَن يتقدّم لينال العزاء والحياة من أسراره المُقدّسة..
    الرب يعطينا جميعًا روح الاتضاع، لكي تكون صلواتنا وقرابيننا وتذكاراتنا مقبولة أمامه كرائحة بخور عطرة، رائحة توبة ورائحة خشوع ورائحة حُبّ..!
القمص يوحنا نصيف