كتب - محرر الاقباط متحدون 

 
"ينبغي لكم أن تولدوا ثانيةً" (يو 3: 7)
 
1. لنيقوديموس، رئيس اليهود، الذي قصد يسوع ليلًا، وأعلن عن إيمانه به أنّه "جاء من الله معلّمًا، ويعمل الآيات لأنّ الله معه" (يو 3: 2)، كلّمه الربّ عن سرّ المعموديّة الذي به "نولد ثانية من الماء والروح" (يو 3: 5). بهذه الولادة نصبح أبناء وبنات الله. و بها نتحرّر من الخطيئة الأصليّة والخطايا الشخصيّة، ونمتلئ من الحياة الإلهيّة، ونصبح أعضاء في جسد المسيح وهياكل الروح القدس، ونندمج في الكنيسة، ونغدو شركاء في كهنوت المسيح ورسالة الكنيسة؛ وبذلك تكون المعموديّة الباب الذي يدخلنا إلى باقي الأسرار (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 1279؛ عرض مختصر للإيمان الكاثوليكيّ، 110). 
يحقّق الروح القدس آيات هذا السرّ ومفاعيله بقوّة حلوله، ويجعل ثمار موت المسيح وقيامته حاضرة في المعمّد والمعمّدة، فيموتان مع المسيح عن إنسان الخطيئة القديم، ويقومان معه إنسانًا جديدًا بالنعمة (مختصر الإيمان الكاثوليكيّ، 111).
 
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة. ويطيب لي أنّ أرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بالحركة الرسوليّة المريميّة في الذكرى الخمسين لتأسيسها في 21 كانون الثاني 1973. فإنّا نهنّئ جميع المنتسبين إليها والمسؤولين وعلى الأخصّ رئيس المجلس العام عزيزنا الأخ إيلي كميد، ومرشدها العام الأب مالك بو طانوس، والمشرف عليها سيادة أخينا المطران غي بولس نجيم  ونشكر سيادة اخينا المطران جول بطرس على كلمته وهو مرشد مجلس محلّي وعضو مجلس المرشدين. ونصلّي من أجل ازدهار هذه الحركة لتظلّ ملتزمة برسالة الكنيسة في المجتمع، وتعيش على "مثال يسوع المسيح رسول الآب، والعذراء مريم سيّدة الرسل وأمّ الكنيسة المرسَلَة" (دليل نور وحياة، بند 35).
 
3. ونرحّب أيضًا باتّحاد لجان الأهل في المدارس الكاثوليكيّة، ولجنة الأهل في مدرسة سيّدة اللويزة، ونشكرهم على تضامنهم وجهودهم مع إدارات المدارس في كلّ ما يعضد الأهالي لتأمين التعليم والتربية لأولادهم في هذا الظرف الإقتصاديّ الخانق. أنّ ثروة أجيالنا الطالعة العلم الرفيع والتربية الروحيّة والأخلاقيّة والوطنيّة.
ويسعدنا أن نرحّب بأهالي الموقوفين على إثر تفجير مرفأ بيروت، وهم يطلبون أن نضمّ صوتنا إلى صوتهم. فإنّ أبناءهم وأزواجهم موقوفون منذ أيّام التفجير 4 آب 2020 أي منذ سنتين ونصف. وهم من دون محاكمة ومن دون قرار ظنّي. فأصبحوا هم ضحايا أحياء لهذه الكارثة-الجريمة ضدّ الإنسانيّة. ويطالبون بإيجاد حلّ قضائيّ يصون متابعة أعمال المحقّق العدليّ بشأن جريمة التفجير.
 
4. إلى جانب سرّ المعموديّة بالماء والروح، تعترف الكنيسة بمعموديّة الشوق وهي أنّ كلّ إنسان يجهل المسيح والكنيسة، لكنّه يبحث عن الحقيقة ويصنع إرادة الله وفقًا لفهمه لها، يستطيع أن يخلص. ذلك أنّه يوجد لديه إرادة ضمنيّة وشوق لقبول المعموديّة لو استطاع إليها سبيلًا أو أدرك ضرورتها (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 1260). وتعلّم الكنيسة أنّ "كلّ الذين لم يعرفوها، لكنّهم عاشوا بموجب إلهامات النعمة الإلهيّة باحثين عن الله وباذلين جهدهم لإتمام إرادته، إنّما يخلصون بالمسيح ولو لم يعتمدوا" (المرجع نفسه، 1281؛ الدستور العقائدي "في الكنيسة"، 16).
اقتبل نيقوديموس معموديّة الشوق عندما أعلن إيمانه بالمسيح "فرأى ملكوت الله" في شخص يسوع بالذات.
 
5. نختتم مساء اليوم عند السادسة في هذا الكرسيّ البطريركيّ أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين، بصلاة مسكونيّة يشارك فيها بطاركة الكنائس وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات ومؤمنون واللجنة الأسقفيّة للعلاقات المسكونيّة في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومجلس كنائس الشرق الأوسط.
كما يبدأ أيضًا في هذا الكرسيّ البطريركيّ مؤتمر أسبوع الكتاب المقدّس بعد ظهر اليوم وهو "اليوم العالميّ"الذي اختاره قداسة البابا فرنسيس "كأحد كلمة الله"، "ويوم مكرّس للكتاب المقدّس". فينظر المؤتمر في سفري يشوع بن نون والقضاة من الكتاب المقدّس في عهده القديم. كلّنا مدعوّون لنستنير بكلمة الله، فهي نور الحقيقة والمحبّة والعدل لكلّ إنسان. فمن دون هذا النور يهيم في ظلمات الكذب والجهل، وفي ظلمات الحقد والبغض، وفي ظلمات الظلم والإستبداد.
 
6. إنّ نور كلمة الله حاجة ماسّة للمسؤولين عندنا في لبنان ولشعبنا. فلو استنار بكلمة الله نوّاب الأمّة وكتلهم ومن وراءهم، لتحرّروا من أنانيّاتهم وحساباتهم ومصالحهم الشخصيّة والفئويّة، ومن مشادات المكايدة، ولكانوا وقفوا وقفة ضمير أمام حال الشعب الفقير المذلول والمحروم من أبسط حقوقه الأساسيّة، الشعب الذي وكّلهم بخدمته، وأمام حال الدولة التي تتفكّك أوصالها تباعًا، وهم منتدبون لتعزيزها، ولكانوا أسرعوا وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة قبل نهاية عهد الرئيس، كما يأمرهم الدستور في مادّته 73!
 
7. أنتم يا نوّاب الأمّة والوزراء مسؤولون عن وصمة العار الجديدة التي تلحق بلبنان من خلال أدائكم غير المقبول، وهي فقدان لبنان حقّ التصويت في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، المكوّنة من 193 عضوًا، بسبب عدم سداد مستحقّات الدولة اللبنانيّة البالغة ما لا يقلّ عن مليوني دولار. ويكبر حجم مسؤوليّتكم بكون لبنان بلدًا مؤسّسًا للأمم المتّحدة، ومشاركًا في وضع شرعتها وشرعة حقوق الإنسان، وقد مثّله آنذاك وجه عالميّ ناصع هو شارل مالك! ويَظهرُ أن وقفَ سدادِ المستحقّات اللبنانيّة لا يقتصرُ فقط على منظّمةِ الأممِ المتحدة، بل يَشمَل أيضًا منظماتٍ عربيّةً ودُوليّةً يَنتمي إليها لبنان. فإذا كان الأمرُ مقصودًا فالخطيئةُ عظيمةٌ، وإذا كان سهوًا فالخطيئةُ أعظم.
 
8. ألا تخجلون من نفوسكم، يا شاغلي مجلس النواب ومجلس الوزراء أمام منظمّة الأمم المتّحدة وانجازاتها لصالح لبنان؟
‌أ. فقد أقامَت في لبنانَ مركزًا لعددٍ من المنظّماتِ والمؤسّسات التابعةِ لها، واعتمدت مندوبيّةً دائمةً للوقوف على حاجات لبنان. وأصدرت ما لا يقل عن أربعين قرارٍ أمميًّا بشأنِه بما فيها تَبنّي "إعلان بعبدا" وتشكيلِ "مجموعةِ الدعمِ الدُوليّة للبنان".
‌ب. ومنذ سنةِ 1978 أرسلت قوّاتٍ دُوليّةً لحفظ السلام في جنوب لبنان استنادًا إلى القرارين 425 و426 من أجل تأمينِ انسحابِ القوّات الإسرائيليّةِ من الجنوب وتوفيرِ الظروفِ الميْدانيّةِ لأنْ تبسطَ الدولةُ اللبنانيّةُ وحدَها سلطتها على كاملِ أراضيه. ثم تَعدلت مُهمّتُها بعد حربِ سنةِ 1982 وبعد حرب 2006 على أساس القرار 1701 الذي لا يزال دون التنفيذ الصحيح.
‌ج.  ويخدم اليوم في لبنان 3800 ضابطٍ وجنديٍّ دوليٍّ يُمثّلون 48 دولةً وسطَ أخطارٍ يوميّةٍ كان آخَرها اغتيالُ الجنديِّ الإيرلنديِّ في بلدةِ العاقبية في الجنوب.
 
9. كيف للدولةِ اللبنانيّةِ والحالة هذه أن تَتوسَّلَ التجديدَ للقوّاتِ الدُوليةِ في الجنوبِ ولا تَدفع مستحقّاتِها للأممِ المتحدة؟ وكيف للدولةِ اللبنانيّة بعد اليوم أن تَتقدّمَ بشكاوى أمامَ الأممِ المتّحدة وتُطالبها بتنفيذِ قراراتِها المتعلِّقةِ بلبنان ولا يَحِقُّ لها التصويت؟ كيف نناشدها إكمالَ مَهمَّتها في الاتفاقِ الثنائيِّ بين لبنان وإسرائيل حولَ الطاقةِ وترسيمِ الحدودِ الجنوبيّة؟ كيف نُطالبها بمواصلةِ تقديمِ المساعداتِ الإنسانيّةِ والمعيشيّةِ والتربويّة؟ كيف نُطالبها بهذا وبغيرِه ولا ندفعُ مستحقاتِنا لها؟
 
10. في هذا الوقت يَستمرُ الشغورُ الرئاسي، ولم تؤدِ المساعي الداخليةَ والدوليةَ إلى إحرازِ تقدّمٍ فعليٍّ نحو انتخابِ رئيس جديد. بل نرى أنَّ المواقفَ بين المحاور الداخليةِ ذاتَ الامتدادِ الخارجيِّ تَتباعد أكثرَ فأكثر، وتُلهي الرأيَ العامَّ بموضوعِ الحكومة. ونحن قلنا منذ اليوم الأول لنهاية العهد، إن هذه الحكومة هي مستقيلةٌ ومَهمّتُها تصريفُ الأعمال. ومن واجبها التفاهم حول تفسيرِ تصريفِ الأعمال لئلا تخلقَ إشكاليّاتٍ نحن بغنى عنها. إنَّ عملها محصورٌ بالمحافظةِ على الحدِّ الأدنى من تسييرِ شؤونِ المواطنين الضاغطةِ ومنعِ سقوطِ الدولة نهائيًّا، خصوصًا أنَّ مهزلةَ جلساتِ انتخابِ رئيسِ للجمهورية لا تزال مستمرة، وقرار عقدها وفقًا للدستور مسلوب. ويترافق كلّ ذلك مع انهيارٍ صارخٍ لسعرِ العملات بحيث تجاوز سعر الدولار الخمسين ألف ليرة لبنانية. وناهز سعر صحيفة النزين المليون ليرة وتضاعفت أسعار الموادُ الغذائية والطبية بعشرات الأضعاف. فكيف سيعيش هذا الشعب؟ فكيف سيعيش الشعب؟ كيف سيأكل ويشرب ويتغذى ويعمل ويقبض أَجره ويتداوى؟ وهل تشعرون به أيّها المؤتمنون على المسؤوليّة؟ خوفنا أنّكم تشعرون ولكنّكم تريدون لهذا الشعب هذه التعاسة لغرض في نفوسكم!
 
11. ورغم ذلك لا تزالُ القوى السياسيّةُ تتقاذفُ الاستحقاقَ الرئاسيَّ وتَمتنعُ عن انتخابِ رئيسٍ جديدٍ يَصمد أمامَ الصعابِ ويَرفضُ الإملاءاتِ ويحافظُ على الخصوصيّةِ اللبنانيّة. ليس خوفُنا أن تَتغيّرَ هُويّةُ رئيسِ الجُمهوريّة المارونيّةُ وطائفتُه، بل أن تَتغيرَ سياستُه ومبادئُه ويَلتحقَ بسياسياتٍ ومحاورَ ودولٍ تُجاهد ليلًا ونهارًا للسيطرةِ على البلادِ وتحويلِه إقليمًا من أقاليمِها. لكنَّ هذا الأمرَ مستحيلٌ لأنَّ قرارَ التصديِّ لتغييرِ هُويّةِ الرئيسِ وكيانِ لبنانَ مأخوذٌ سَلفًا مهما كانت التضحيات. ولا يَظُنّننَ أحدٌ أنه قادرٌ على تغييرِ هذا التراثِ التاريخيّ وهذه الخصوصيّةِ الوطنيّة. ويُخطئ من يَظنُّ أنهُ يستطيعُ خطفَ رئاسةِ الجمهورية اللبنانيّةِ وأخْذَها رهينةً ويطلب فديةً لإطلاقِ سراحها. لسنا شعبَ الفِدْياتِ بل نحن شعبُ الفداء.. في هذا السياق إن القوى الوطنية السيادية أكانت مسيحية أم مسلمة مدعوة للاتحاد وتشكيل هيئة مشتركة تدافع عن لبنان ليتأكد العالم أن شعب لبنان مصمم على الحياة معًا.
 
12. هذه هي أمنياتنا نستودعها عناية الله القادر على كلّ شيء، له للمجد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين.