أيمن زكى
في مثل هذا اليوم تنيح القديس أرشليدس. وقد ولد هذا المجاهد بمدينة رومية، واسم والده يوحنا وأمه سنكلاتيكي، وكانا بارين أمام الله، سالكين بحسب وصاياه. مات والده وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما أرادت أمه ان تزوجه لم يقبل فأشارت عليه ان يمضي إلى الملك ليأخذ وظيفة أبيه، وأرسلت معه غلامين بهدية عظيمة ليقدمها إلى الملك. 
فلما سافروا هاج البحر عليهم برياح شديدة فانكسرت السفينة، فتعلق القديس بقطعة من خشب السفينة ونجا من الغرق بعناية الله. ولما صعد إلى البر وجد جثة إنسان قد قذفها الموج، فتذكر مآل الناس وزوال العالم، وحدث نفسه قائلا: ما لي وهذا العالم الزائل. وماذا اربح عندما أموت وأصير ترابا. ثم نهض وصلي إلى السيد المسيح ان يهديه إلى الطريق القويم،
وبالفعل قدم لكل شاب خمسين قطعة ذهبية وطلب منهما ألا يخبرا والدته بشيء، أما هو فعوض ذهابه إلى أثينا انطلق إلى فلسطين.
وفي فلسطين ذهب إلى أحد الأديرة كانت تحت رعاية راهب يدعى "رومانُس" التقى أرشليدس بالرئيس الراهب وتحدث معه، فشعر الرئيس بنعمة الله العاملة في أرشليدس، فقبله بعد أن أظهر له صعوبة طريق الرهبنة، وقدم له قلاية منفردة.
و إذ جاء وقت الطعام اعتذر أرشليدس إنه لم يعتد أن يأكل خبزًا قط، بل يكتفي بقليل من الحبوب والبقول، كما لاحظ عليه الرهبان نعمة الله حالة عليه، فأحبه الجميع، وكانوا يستشيرونه.
و لما انقطعت الأخبار عن الأم فقلقت واضطربت، وصارت تسأل عنه بدموع في أثينا فلم تستدل عليه.
فأشار عليها البعض أن تفتح بيتها لإضافة الغرباء، لعلها تستطيع أن تستدل عليه من أحدهم، ولكن مرت الأيام ولم تعرف عنه شيئًا، ولم تستطع أن تتعزى، حاسبة نفسها أنها قد دفعته للموت بيديها إذ حثته على ترك الجندية والسفر إلى أثينا للمزيد من العلم.
و في أحد الأيام إذ استضافت بعض التجار الغرباء من فلسطين، وقد رأوا إنسانًا يصرعه شيطانًا، صاروا يتحدثون فيما بينهم أنه يلزم إرساله إلى فلسطين في دير الأب رومانس ليصلي عليه الراهب أرشليدس فيشفى. وكانوا يتحدثون عن هذا الراهب وعمل الله معه، والأم تنصت حتى وإذ أدركت من حديثهم أنه ابنها سألتهم أن يخبروها عن طريقة لتذهب إليه فتشفى من علة في جسدها، أصابتها منذ اثنتي عشرة سنة، وقد فشل الأطباء في علاجها.
فأجابها أحدهم أن الطريق شاق والمسافة طويلة، لكنها أصرت أن تعرف مكانه لتراه، فأجابها أنه لا يرى وجه امرأة إنما يكتفي بالصلاة على زيت يرسله للمريضة فتدهن به نفسها فتبرأ.
فجمعت الأم كل أموالها وانطلقت بها إلى أسقف روما تقدمها له وهي تقول له أن الله سمع صلاتها وأرشدها إلى ابنها الذي صار راهبًا بفلسطين، وأنها قد عزمت على الذهاب إليه، وها هي تترك كل ممتلكاتها بين يدي الأسقف للتصرف فيها، والصلاة من أجلها.
و لما سافرت الأم إلى فلسطين وعانت الكثير حتى بلغت دير الأب رومانُس، وقد نسيت كل تعب أمام بهجتها برؤية ابنها.فقرعت باب الدير وإذ التقت بالراهب المسئول عن الباب طلبت مقابلة الراهب أرشليدس، فاعتذر لها أنه لا يقابل امرأة قط.
فتوسلت إليه أن يذهب ويخبره هكذا: "هوذا أمك واقفة على الباب تريد أن تراك قبل موتها".
فذهب الراهب يخبر أرشليدس بالأمر فحارت نفسه فيه، ثم ركع يصلي طالبًا العون من الله إذ قد وعد الله ألا يرى وجه امرأة قط ثم سأل الراهب أن يذهب إليها ليقول لها أنه لا يستطيع رؤيتها، وإن أرادت فلتترهب هي بأحد أديرة النساء. أجابته الأم "قل له: لقد عانت أمك من مشاق الطريق وما لاقته من أهوال البحر؛ كما أنها هي التي أنجبتك وتعبت في تربيتك ليلًا ونهارًا. ليتك تستجيب لتضرعي وتسمح لي بدقائق أقضيها معك، فأنت عزائي وسلوتي وقلبي".
فأخبر الراهب الأب أرشليدس بكلمات أمه، فسأله أن يخبرها بأن الرب سيعوضها عن تعبها لكنه لن يحيد عن عهده مع الرب، وإذ لم تسترح الأم، أجابته أنه إن رفض مقابلتها فستذهب إلى البرية وتترك نفسها للوحوش ويُطلب دمها منه.
فلم يحتمل الأب أرشليدس هذه الكلمات فطلب من الراهب أن يسمح لها بالدخول، وكانت عيناه تزرفان الدموع.
و ركع أرشليدس ليصلي طالبًا من الله ألا يتخلى عنه، وأن يأخذ نفسه في يديه ليلتقي معه، وإذ دخلت الأم على ابنها وجدته قد فارق الحياة، فبكت بمرارة نادمة على إلحاحها في مقابلته وسألت الرب أن يأخذ نفسها مع ابنها، وبالفعل ركعت الأم بجوار جسد ابنها لتُسلم الروح.
و لما اجتمع الرهبان حول الأب أرشليدس وأمه ليسمعوا من الراهب المسئول عن الباب ما قد جرى، وكانت دموعهم لا تتوقف من أجل هذا الأب العجيب في محبته لله. وإذ أرادوا دفن الجسدين اختلف الرهبان فيما بينهم إن كانوا يدفنونهما معًا أم لا. وإذ هم يتباحثون في الأمر سمعوا صوتًا يخرج من جسد القديس أرشليدس، يقول: "أسألكم يا أخوتي أن تجعلوا جسدي مع جسد أمي، لأني لم أسمح لها برؤيتي ونحن في الجسد، أما الآن وقد خرجت من هذا العالم فاتركوا الجسدين معًا". وقد شرف الله هذا القديس بعمل آيات كثيرة.
بركه صلاته تكون معنا كلنا امين...
و لالهنا المجد دائما ابديا امين...