كمال زاخر
شئ ما اقتحم الكنيسة مع انتصاف القرن العشرين، فيما كان العالم يعيش تداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وخريطته تتغير بشكل متسارع، تتراجع فيه القوى التقليدية لتظهر أخرى، كان الإستقطاب الحاد يشكل ملامح العالم الجديد، ويشهد العالم الثالث سلسلة من حركات التحرر، ولم تكن مصر بعيدة عن هذا الحراك.

كان الشباب القبطى (المصرى المسيحى) حاضراً ومشاركاً فى الحراك الوطنى، عبر منظومة الأحزاب القائمة وقتها، وفى مقدمتها حزب الوفد، وأسس أحد أقطابهم ـ مكرم عبيد ـ حزباً فاعلاً لم يصطبغ بصبغة دينية بل كان مصرياً ليبرالياً، حزب الكتلة الوفدية، وهو من نحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وكان الأقباط مشتبكين مع الحركة الثقافية والإبداعية، لكنهم لم يجدوا لأقدامهم موقعاً لأقدامهم، فى المشهد السياسى بعد انتصاف القرن، وهو استبعاد أخذ فى التصاعد حتى وصل ذروته مع إحياء جماعات الإسلام السياسى مع قدوم الرئيس السادات.

كان المجال العام المتاح أمام الشباب القبطى وقتها هو المجال الدينى الكنسى، كانت الأنظمة السياسية طاردة لهم أو على الأقل مضيقة عليهم، ومن صمد أمام التضييق، اصطدم بالسقف المتاح لهم، فتحولوا إلى أحد لوازم المشهد الذى يتم تصديره عندما يكون السؤال عن تواجد الأقباط فى المشهد السياسى، وكان البديل المرحب الكنيسة الحاضنة للشباب الباحث عن تحقق.

وكنا قد تطرقنا قبلاً لرحلة شباب اربعينيات ذاك القرن إلى قيادة الكنيسة، وما يحدث فى كنيسة اليوم من صدامات بعضها معلن وأكثره يدور فى الغرف المغلقة، والأروقة البعيدة، وقد وجد طريقه إلى الفضاء الافتراضى، سواء ما يعلنه بعضهم أو يكلف به اللجان الإلكترونية الإحترافية والممولة، فى توقيتات بعينها، من مريدى طرفى صدام ذاك الجيل.

وكما فى السياسة كذلك فى الكنيسة، صار الراقدون تحت التراب هم من يحركون الأحداث. وصارت أدوات السياسة هى ادوات المريدين الجدد، واحقاقاً للحق، هم لم يبتدعوا هذا التوجه، فقد عرفت السياسة طريقها إلى ادارة صراعات الكنيسة مع أول مجمع مسكونى فى تاريخها ـ بعد مجمع أورشليم فى كنيسة الرسل ـ حين دعا الإمبراطور قسطنطين اقطاب الكنائس إلى مجمع نيقية (325م.) وترأسه ليدشن زواج السياسة والكنيسة.

ولما كانت السياسة لا تعرف الصداقات أو العداوات الدائمة، فمؤشرها يتجه بقرون استشعاره نحو المصالح القائمة، لذلك فقد صار من الطبيعى أن يبدل بعضهم مواقفه ومعاركه  وفقاً لتلك المصالح، ففى اعداد مجلة مدارس الأحد فى اصدارها الأول (1947 ـ 1954) نطالع رتل من المقالات التى تهاجم ترشح اسقف للكرسى البطريركى البابوى، وتعلن أن قوانين الكنيسة تقر بترشح علمانى، وتورد نماذج لعلمانيين تم رسامتهم بطاركة على الكرسى المرقسى، فيما تُحرِّم بشكل قاطع ترشح اسقف للبابوية، وتأتى بنصوص تلك القوانين، وحين لاحت لأساقفة ذلك الجيل فرصة الترشح للكرسى البابوى، وقد جرى فى نهر الكنيسة مياه كثيرة ـ فإذا بهم يوظفون اقلامهم، على منصات معاصرة، لشرعنة ترشحهم، بتخريجة مبدعة، أن المقصود بالتحريم ترشح اسقف الإيبارشية وليس الأسقف العام. وكأن وضع اليد مختلف بين هذا وذاك، وللخروج من مأزق تكرار وضع اليد جاءت التخريجة المبدعة الثانية، بتسمية إقامة الأسقف بطريركاً بأنها "طقس تجليس"!!.

السؤال الآن وقد اتسعت دائرة الأساقفة العموم، ماذا هم فاعلون ... حال ترشحهم يوماً، والكلام هنا فى المطلق، وفى الإطار التنظيمى، هل تتصور شكل المعارك الإنتخابية وقتها ـ فى وجود تقنيات التواصل الرقمية، واللجان الإلكترونية، وشغف المنصب، وادراك الأبعاد السياسية له ـ وما تنتجه من ارتباكات تتجاوز اسوار الكنيسة والأقباط، لتقفز فى فضاء الوطن بما يهدد استقراره وسلامه، فيما تملك الكنيسة تجنب كل هذا السجس والصدامات بتعديل واضح ومحدد فى لائحة انتخاب البابا البطريرك ينص على عدم جواز ترشح أياً من الاساقفة (ايبارشيين وعموم) للمنصب البابوى والعودة للتقليد القبطى الأصيل، بقصره على الرهبان الديريين وحسب.

ولا يخفى على الفاهمين حكمة الترتيب، بعيداً عن زعم زواج الأسقف بايبارشيته والتى لا تستند لتقليد ابائى أو كتابى، وقد تعرضنا له فى المقال السابق، حكمة الكنيسة أن الراهب يأتى وهو على مسافة واحدة ـ فى الغالب ـ من كل الاساقفة، فلا يكون محسوباً على أحدهم، ولنا فى البابا كيرلس السادس مثالاً، فتخفت اصوات لجان المتنافسين والمتصارعين. وتجنب الكنيسة مزيد من الصراعات والمصادمات وكذلك الوطن.

لكن السؤال الذى يصطدم بالحالمون والساعون والداعمون "من يعلق الجرس؟".

هل ننتظر من الفاهمين أو قل هل نتوقع منهم إجابة؟.

وفى الاطار التنظيمى المستتقبلى طرحت رؤية عن التنظيم الهيراركى للكنيسة وقد مدت مظلتها لقارات العالم الست، فإذا بالمرجفون يشنون حملة شعواء، أكدت توصيفى لهم، كأجراء غير معنيين بترتيب الكنيسة ونجاحها فى تحقيق هدفها بحسب المسيح والآباء، وفيما هم ينتقدون يكشفون توجههم الإنفصالى وأنا هنا انقل سطورهم كما كتبوها حتى بتدنيها، الذى يؤكد قدر هشاشتهم أمام الاطروحات الجادة التى تجعلهم فى مهب الريح، كتبوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"المدعو كمال زاخر موسى يدعو فى مقترحاته الشيطانية من وقت لأخر باقامة بطريرك لكل قارة وأن يكون له مجمع اساقفته وذلك من أجل الاحتياجات الرعوية التى تتناسب كل مكان توجد فيه الكنيسة، يعنى دعوة علنية من جاهل غبى للأسف الشديد جداً لشق الكنيسة وهو لا يدرى بماذا يطلب ولا يدرس عواقب هذا الطلب أو المقترح الشيطانى"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هكذا يفكرون وهكذا يكتبون، وهو تفكير متريف لا يتجاوز جلسات المصاطب التى يديرون عليها أمورهم، إذا كان الأمر كذلك فكيف بقيت الكنيسة الكاثوليكية التى ترعى نحو مليار ونصف المليار من الكاثوليك حول العالم، دون أن تنهار أو تنقسم وتتشظى، بحسب مفهوم المرجفين، وهى تصلى بكل لغات العالم، وحتى اللهجات المحلية فى افريقيا واسيا وأمريكا اللاتينية، وتقر فى ترتيبها بمختلف التقاليد الآبائية كل فى منطقة انتشاره، التقليد البيزنطى، والتقليد الأنطاكى، والتقليد الإسكندرى (القبطى)، والتقليد الكلدانى، والتقليد الأرمنى.

وعندما انتبهت فى أوائل الستينيات إلى وجود قضايا تدبيرية رعوية وتعليمية تحتاج إلى فحص وتطوير يتناسب والمتغيرات العاصفة التى حلت بالعالم، دعت إلى عقد مجمع موسع للتباحث فيها، شارك فيه ما يربو عن الألفين من اساقفتها حول العالم، عرف بالمجمع الفاتيكانى الثانى (1962 ـ 1965) ودعيت الية مختلف الكنائس كمراقبين، ومنها كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وكلف البابا كيرلس السادس الدكتور وهيب عطالله (الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى والدراسات القبطية فيما بعد) بالحضور ممثلاً للكنيسة.

وكانت اهداف المجمع بحسب ما أعلن:
1. تطوير علاقات إيجابية للكنيسة الكاثوليكية مع العالم الحديث.
2. التخلي عن نظام الحروم القاسي المستعمل في المجامع السابقة.
3. التأكيد على حقوق الإنسان الأساسية بما يتعلق بالحرية الدينية.
4. التأكيد على أن الحقائق الأساسية تُعلم أيضاً في ديانات ومذاهب غير الكاثوليكية.
5. إصلاح الروحانية الكاثوليكية والسلطة الكنسية.

وغنى عن البيان أننا لا نطرح تقييما لأعمال المجمع وما نوقش وصدر من بيانات عقائدية، إنما نشير إلى كيفية مواجهة الكنيسة لواقعها وجسارة ضبطه وتصحيحة ومعالجته بشفافية تحت انظار العالم وحضوره.

أنها الإدارة والإلتزام والإنضباط. وهى بجانب العمل الكنسى التقليدى تدير منظومة عالمية من المستشفيات والمدارس والجامعات والملاجئ وتضم العديد من الأنظمة الرهبانية من الرهبنة التقليدية إلى الرهبنة الخادمة.

ومازال للطرح بقية.