رامي عطا صديق 
تمتعت مصر منذ زمن بعيد بالكثير من مظاهر القوى الناعمة والذكية، التي تقف على النقيض من القوى الخشنة والصلبة، حيث تعود مظاهر القوى الناعمة في جانب كبير منها إلى طبيعة الشخصية المصرية التي تميل- بشكل عام- إلى الطيبة والتسامح والكرم، والميل إلى الإبداع والابتكار، والقدرة على استيعاب الوافدين وإضافة الغرباء، وعبر تاريخها مر عليها عدد كبير من الرموز الدينية، اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهربت إليها العائلة المقدسة وعاشت فيها نحو أربع سنوات. كما تمتعت مصر بحضارة عريقة شملت أبعادًا مصرية قديمة ويونانية/ رومانية وقبطية وعربية وإسلامية. وتتميز مصر بموقع جغرافى متميز، فهى بالأساس دولة إفريقية، يقع الجانب الأعظم منها في قارة إفريقيا، كما يقع جزء منها «شبه جزيرة سيناء» في قارة آسيا، وتطل مصر على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ويصل إليها نهر النيل، قادمًا من أواسط إفريقيا، وعلى جانبيه الشرقى والغربى استقر المصريون يزرعون ويصطادون، يصنعون ويتاجرون.

وقد تمثلت تلك القوى الناعمة بشكل أساسى ورئيس في تأليف الكتب في مختلف مجالات الثقافة وكافة ضروب المعرفة، بالإضافة إلى تنظيم الأشعار والأزجال، وإنتاج المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية والأفلام السينمائية والأعمال المسرحية والموسيقية، وإبداع الفنون التشكيلية التي شملت اللوحات الزيتية والأعمال النحتية والتصميمات المعمارية، وفى مصر جامعات عريقة ومراكز بحثية أصيلة، ومن عوامل الجذب السياحى وجود حدائق فريدة، ومتاحف كثيرة ومتنوعة، من أحدثها المتحف القومى للحضارة المصرية بالفسطاط، وقريبًا المتحف المصرى الكبير، وهى تحتضن مدنًا تراثية وأسواقًا تاريخية، فضلًا عن تعدد السياحة، الدينية والشاطئية والعلاجية والثقافية والعلمية، وتتمتع مصر بصناعات تراثية كثيرة مثل الخيامية والفخار وأشغال النحاس وصناعة التمور.

وفى مصر يوجد الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، وهما من مظاهر تأثيرها الروحى، لا سيما وأن بها الكثير من المواقع والمزارات الدينية. وتنظم مصر عددًا غير قليل من الأحداث والمناسبات الثقافية ذات الطبيعة الدولية مثل معرض القاهرة الدولى للكتاب ومهرجان القاهرة السينمائى، بالإضافة إلى عدد من الأحداث والمناسبات الرياضية. وكانت مصر- وما زالت- مقصدًا للأدباء والمترجمين والفنانين، ويذكر المؤرخون أن بعض الفنانين اكتسبوا شهرتهم العربية من العمل في مصر، وأن المسرحيات التي عرفتها القاهرة نهاية القرن «19» وبدايات القرن «20» كانت تتميز بتنوع الملابس واللهجات والجنسيات داخل المسرحية الواحدة، ومن القاهرة خرجت الفرق المسرحية تجوب بلاد الشام وبلاد المغرب، تعرض أعمالها بالأسابيع والأشهر.

وليس غريبًا أن تسير في أحد شوارع الدول العربية، لتشعر بقوة مصر الناعمة، فحين تمشى في شوارع كازابلانكا العريقة «الدار البيضاء» بالمغرب تسمع أغانى مصرية، تنطلق من المقاهى والمنازل، وقد تجد في سينما «البالاس» بشارع الحبيب بورقيبة بتونس فيلمين أحدهما تونسى والآخر مصرى، وفى مقاهى وكازينوهات بيروت يرقص الشباب على موسيقى الأغانى المصرية، وهى حالة تتشابه في سوريا وعمان وبغداد ودبى، وفى غيرها من العواصم والمدن العربية، التي تستقبل فنانى مصر بترحاب شديد وتنظم لهم الحفلات الجماهيرية، ومن هنا فإنه ليس غريبًا أن تكون اللهجة المصرية معروفة لكل العرب.

أذكر أننى سافرت لأول مرة خارج مصر في صيف عام 1998م، وكانت الرحلة الأولى إلى لبنان، كنت وقتها طالبًا جامعيًّا، وكانت المناسبة حضور مؤتمر شبابى حول ثقافة الحوار وقبول الآخر والاختلاف، هناك اجتمع المشاركون، شباب من عدة دول عربية، على صوت أم كلثوم، يغنون أغانيها. وفى رحلات أخرى، لدول عربية وأوربية، وجدت كثيرين يعرفون تاريخ مصر وتفاصيل حضارتها.

ولعل السؤال الآن هو: ماذا بعد؟ نرى هنا ضرورة دعم القوى الناعمة وأهمية استثمارها، ما ينعكس على وضع مصر السياسى والاقتصادى.. أولًا- الدعم: من خلال بناء وعى المصريين، من مختلف الأجيال والفئات، بقوة مصر الناعمة والذكية، وتسهيل عمل المؤسسات المعنية بإنتاج القوى الناعمة، وإزالة أية عقبات أو معوقات.

ثانيًا- الاستثمار: من خلال التسويق والترويج لمختلف مظاهر القوى الناعمة والذكية، عبر استراتيجية قومية تقوم على الدراسة والعلم، وتستعين بالخبراء والمتخصصين.
نقلا عن المصري اليوم