عاطف بشاي
كانت مظاهرة الحب الكبيرة التي احتشدت في وداع «سناء جميل» عند رحيلها بقدر ما تعبر عن قيم وفاء لم تندثر ومعانى احترام وتقدير لفن صادق وحقيقى.. بقدر ما تعكس أسى تكريم أتى متأخرًا.. أتى ليصاحب صاحبته إلى الثرى.. كانت موهبة فذة تتمتع بتكوين نفسى فريد جعلها كتلة من المشاعر الملتهبة الفياضة، وحزمة من الأعصاب المُتّقدة الخلاقة.. تحمل روحًا وثّابة متوهجة بالعطاء، فإذا أطلّت على الشاشة أو ظهرت على المسرح نحس وكأن الحياة قد دبت وتجسدت في نظرة أو حركة أو تعبير.. فحضورها طاغٍ وانصرافها موحش.

كانت تقرأ ما بين السطور وتنفذ إلى أعماق الشخصية الدرامية دن عناء أو افتعال.. وفى تنوع أدائها أدوارًا مختلفة تضفى ثراء لا أبالغ إذا قلت إنها ترفع به هامة مؤلف.. وتُحيى به قدرات مخرج.. فلديها قدرة مبهرة على رسم الملامح النفسية وتجسيد الأبعاد الاجتماعية للشخصية من خلال الاختزال بالتعبير بقسمات الوجه تعبيرًا ينبض بالإحساس الذي يتجاوز الانفعال الوقتى والعابر إلى تجسيد حالة إنسانية يتوحد بها المتلقى وتستحوذ على مشاعره وتبقى في ذاكرته أنك لا تضبطها أبدًا، وقد لعبت شخصية نمطية بلوازمها التقليدية، ذلك لأنها تعيش الفن كالحياة وتعيش الحياة كالفن.

و«نفيسة» في فيلم «بداية ونهاية» ليست مجرد عانس انزلقت إلى الرذيلة، بل هي كائن بشرى بائس لامرأة ضحية ظروف اجتماعية ظالمة.. و«فضة المعداوى» في مسلسل «الراية البيضاء» ليست مجرد شريرة تحيك خطة إجرامية وتتوعد خصومها بل هي نموذج فظّ لشريحة اجتماعية طغت بقبحها ودمامتها على سطح المجتمع وهكذا.. يتسق ذلك مع شخصية فريدة يعرف جيدًا سجاياها كل مَن اقترب منها.. ففى زماننا المراوغ المخادع الزائف.. زمن الكذب والمداهنة والتسلق والمواربة، تصفعك «سناء جميل» بصدقها وصراحتها.. لا كلمة مزينة ولا عبارة مزوقة ولا رأى ملتويًا، ولا تنازل من أجل منفعة أو مصلحة.. ولا مشاعر تخفيها سعيًا وراء مكسب.. ولا عشق إلا لفنها ولا إخلاص إلا لإبداعها ولشريك عمرها، الكاتب الكبير الراحل، «لويس جريس»، ذى النفس الكبيرة.. ولا ولاء إلا لإلهام مبدع يظل حيًّا ينبض على مر الأزمان.. ولا تذهب خفقاته إلى العدم بموت جسد صاحبته.

■ ■ ■

أما «لويس جريس» فقد عرفته في منتصف السبعينيات من القرن الماضى.. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أواصل رحلة الحياة والإبداع تحت مظلة وقلب وعقل وأعين ذلك الأستاذ الراعى والمعلم، أنهل من حنان أبوته وروحه الوثابة المتفائلة.. وأفقه الرحب.. وطهارة مقصده، وأستمتع بلقاءاته الحلوة وحواراته الشيقة.. ويقظة حضوره وذاكرته المتوهجة.. وصحبته أينما كان.. في مكتبه في مجلة «صباح الخير» حينما كان رئيسًا لتحريرها، حيث كانت حجرته مفتوحة على مصراعيها بلا استئذان.. فهو بلا سكرتارية.. فكان يقبع خلف مكتبه مُحاطًا بعشرات الصحفيين والمحررين والكُتاب والزائرين.. يعمل ويتحدث ويناقش ويقترح ويؤشر على مقالات بالموافقة.. ويطلب المطبعة، ويصدر تعليماته بود ورفق، ويلاطف ويداعب البعض.. ويحنو على آخرين.. ويساند الجميع بلا تحفظات، ويحتوى المشاكل المعقدة قبل تفاقمها.. ويعامل الجميع باعتبارهم أولاده.. ويفتح لهم الطريق.. فأياديه البيضاء تمتد لمحررين وصحفيين مبتدئين يشجعهم ويحتفى بطموحهم ويحلم معهم بمستقبل مبشر.. إنه صاحب فضل عميم على أجيال كاملة تعلمت ونمت وكبرت ولمعت برعايته وتشجيعه. في زيارة له في منزله، لاحظ اكتئابى، فانزعج انزعاج الأب لحالة ابنه.. وسألنى عن سبب قنوطى وحزنى فأبلغته بتفاصيل إساءة لحقت بى من منتج لعمل درامى أكتبه تسببت في إيذائى.. فربت علىَّ بحنو دافق، وأراد أن يُطيب خاطرى بطريقته الآسرة، التي كان ينفرد بها، وهى الحكى عن تجربة مماثلة مرت به.. واستخلاص العبرة من خلالها.. فأخبرنى بواقعة قديمة، حيث فوجئ في إحدى زيارات رئيس الجمهورية الرسمية لموقع من المواقع بصحبة رئيس الوزراء والوزراء.. ورؤساء تحرير الجرائد والمجلات- وكان هو واحدًا منهم- بأن التفت رئيس الوزراء خلفه في مسيرته إلى جوار الرئيس.. وما إن رآه حتى صاح فيه ببساطة: على فكرة أنا رفدتك.. ما تروحش مكتبك من بكرة، (وكان ذلك بسبب حملة صحفية قادها «لويس» بصفته رئيسًا لمجلس إدارة «روزاليوسف» ضد سياسات رئيس الوزراء هذا). كانت المفاجأة صاعقة.. وأول ما فكر فيه أن يهرع إلى المؤسسة الصحفية لقبض راتبه الشهرى.. فاكتشف أنه تم وقفه.. ووجد نفسه يهيم على وجهه في الشوارع ذاهلًا مفلسًا منهارًا لا يدرى ماذا يفعل.

هنا دقت «سناء جميل» على صدرها.. وصاحت في جزع كما لو أن تلك الواقعة حدثت الآن:

- يا حبيبى يا «لويس».. أنت لم تحْكِ لى شيئًا من هذا.

فقال بود طاغٍ:

- ما حبتش ازعجك.

ثم استطرد مكملًا:

- لم أنم في تلك الليلة.. وظللت أحدق في سقف حجرة النوم حتى الصباح.. وما إن نظرت في مانشيتات الصفحات الأولى من الجرائد حتى فوجئت بنبأ وفاة رئيس الوزراء بأزمة قلبية مفاجئة.

وعلل حكايته لتلك الواقعة بحكمة أن الحياة في صيرورة دائمة وتغيرات متلاحقة.. تقلب الأوضاع رأسًا على عقب.. ومن نقيض إلى نقيض لم نكن ندريه أو نتوقعه.. فالأقدار تحمل في طياتها تقلبات الزمن وتحولاته العجيبة ومفاجآته المثيرة.. فلا تحزن ولا تغْتَمّ.. فانت لا تعلم ما تخفيه لك المقادير، فهذا هو أحد أسرار الوجود.

■ وفى حضرة «لويس جريس»، المفوه البليغ والحكيم الأريب، يصمت الجميع ويستولى على الأسماع وينضح عبير المتعة بحضوره الجميل.. فقوة تأثيره طاغية وعمق إحساسه الذكى فواح.. إنه يشكل عالمًا بأسره يضج بالحياة والأمل والدفء.. ولم لا وقد عاش عمره المديد يؤسس لدولة الحب ويستعير شعار أفلاطون أعطنى جيشًا من العشاق وأنا أستطيع أن أغزو به العالم كله.. ويتقمص شخصية الشاعر الصوفى العظيم «جلال الدين الرومى»، الذي جابه عصرًا من التشدد المذهبى العاتى والتعصب الأعمى بقصيدة مطلعها: توجه للحب يا حبيبى/ فلولا حياة الحب الجميلة لكانت الحياة عبئًا ثقيلًا.

لقد كان «لويس جريس» في عطائه الثمين لكل مَن حوله وإنكار ذاته وتساميه ونبله يؤمن أن البحث عن الحب يُغيرنا.. وفى طريق الحب ننبذ الكراهية، فما من حكمة بلا حب. كان يحتوينا جميعًا برسائل حبه وكأنه يضم في أحضانه البشر.. كل البشر.. برحيله، افتقدت مظلته الوارفة وحمايته الفياضة، وأصبحت أخاف من المفارقة المؤلمة التي نعيشها في هذا الزمن الضنين.. بين زوال دولة الحب وبين سيادة عصر الكراهية والفرقة.. وازدراء الآخر.. وأصبحت أهفو إلى حنو طلته المطمئنة تتلو علىَّ بعض رحيق حكمته.. فالكلمات لا تموت.
نقلا عن المصرى اليوم