بقلم المهندس باسل قس نصر الله
مَرِض المطران "إلياس يوسف" وكان على رأس مطرانية الروم الأرثوذكس بحلب.
 
منذ ثلاثين عاماً، كان الشيخ "أحمد حسون" قد قام بزيارة المطران للمرّة الأولى، مهنئاً بعيد الميلاد المجيد، فَشكرَ له تلك البادرة الجميلة التي تقع في خانة التآخي، ولكنه لم يرُدّ له الزيارة.
 
بعد عام، وفي عيد الميلاد، أعاد الشيخ "حسون" زيارته للمطران "يوسف" مهنئاً، فرَحَّب بزيارته وشكره، لكنه أيضاً لم يردّ الزيارة.
 
وتدور الأيام حتى الميلاد حيث أصرّ الشيخ "حسون" بزيارة لمعايدة للمطران "يوسف" الذي كان يختلس نظرات احترام إلى الشيخ وهو يتكلّم.
 
إستقبل الشيخ بعدها بأشهر المهنئين الكُثر بعيد الفطر السعيد، وكانت خلال هذه السنوات تتوافد المطارنة والكهنة والأشخاص المسيحيين - كل عام أكثر من الذي سبقه - وفي هذا العيد حَضَرَ المطران "إلياس يوسف" وشقّ طريقه بين الناس وهو يَتَقدّم نحو الشيخ، وهنأه بحرارة وجلس.
 
شَعَرَ الشيخ بأن المطران "يوسف" يرغب بالكلام، فقدّمَه بكلمات وترك له الكلام أمام المهنئين.
 
وقف المطران مستنداُ على عصا الراعي وقال:
"جاءني الشيخ منذ ثلاث سنوات، مهنئاً بعيدِ الميلاد، ولم أرُدّ الزيارة لقناعتي أن زيارته هي من قبيل إظهار نفسه بمظهر الحريص على العلاقات الإسلامية المسيحية.
 
ثم بعد عام جاءني الشيخ مرة ثانية للتهنئة، وأيضاً لم أرد زيارته، لاعتقادي أنها نوع من المجاملة وجلب الأضواء التي كَثُرت هذه الأيام.
 
ومرة ثالثة جاءني مهنئاً بعيد الميلاد وتكلّم فأنصتُّ إليه وفكّرتُ بأن مجيئه للمرة الثالثة هي دليل صادق وليس حباً بالظهور أو جلباً للأضواء".
 
وتكلّم بعدها مهنئاً الإخوة المسلمين بالعيد.
 
مَضت السنوات ونُسِجت علاقة صداقة بين الشيخ والمطران، حتى بلغَنا الخبر بأن المطران مريض جداً، وقد اعتزل في قريته وهو يبتعد عن الناس ولا يتلقّى أي اتصال، منتظراً قضاء الله.
 
في يوم من الأيام، رنّ هاتف منزلي وكان المتكلم أحد الكهنة وقال لي أن المطران يرغب بالحديث مع الشيخ، فأتفقت على موعد مُعيَّن يتصل به الشيخ.
 
بعد سويعات إتصل الشيخ وتكلم مع المطران وكانت مجاملة حقيقية من الشيخ، حيث دردش مع "سيّدنا" وشجّعه وقال له أنه ينتظره. ثم ران صمت رأيت أن الشيخ "حسون" يحارب كي لا تنزل الدمعة من عينيه، ثم ودّع المطران بكلماتٍ سيطرت عليها الغصّة.
 
أغلق السماعة وقال لي أن المطران قال أنه يشعر بدنو أجله وهو لذلك يطلب منه أن يقوم بتأبينه في جنازته.
 
بعد أسابيع قليلة وَرَدَ النبأ الحزين بوفاة المطران، وبدأت المطرانية بإجراء ترتيبات الجنازة، وغصّت الكنيسة بالحضورِ الكثيف، ومن كلمات التأبين، كانت كلمة الشيخ في صديقه المطران.
 
هل هي كلمات تخرج من فمِ الشيخ؟
 
لا .. إنها كلماتٌ تخرج من قلبه الحي إلى أسماعنا، ولكن الأهم أنها كلماتٌ تصل إلى قلب المطران المتوفى.
 
رحمك الله سيدنا "إلياس يوسف".
 
اللهم اشهد اني بلّغت.