د. ماهر عزيز
منذ أيام قليلة صنع الجهال - أو المتنطعون أو المزايدون أو المنافقون أو أصحاب الضمائر الفاسدة - بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية خزيا عظيما ..

اتفقوا أن يرفضوا حفلا موسيقيا علي مسرح الكاتدرائية المرقسية ، مدعين أن هذا الحفل يعاند الإرادة الإلهية المعلنة سلفا في الكتاب المقدس ..

ويالهم من أردياء يوظفون الدين ضد غايته وقصده .. ويصطنعون مخاتلة كبري وغشا صريحا وادعاء متدنيا ..

فالدين إذا كان يستهدف في الأساس شرف الإنسان وسعادته ، يستهدف الفن الرفيع أيضا في جوهره شرف الإنسان وسعادته ..

إن الدين الذي يخاطب الروح الإنسانية مبتغيا تطهيرها مما يعلق بها من الخطايا والأدران يتفق في الغاية ذاتها مع الفن الذي يخاطب النفس الإنسانية والوجدان البشري مبتغيا تطهيرهما مما يعلق بهما من الخطايا والأدران ..
 
ولذلك كان الفن ملتحما بالدين منذ ظهوره في البشرية قاطبة  .. فرنمت مريم أخت موسي وهارون بعد الخروج أهزوجة الفرحة القلبية الغامرة في الصلاة المرفوعة شكرا لله وسط جوقة المنشدين وجحافلهم الذين عبروا البحر ونجوا  ..

وأنشد داوود بالدفوف والصفوف والأوتار والأرغن وصنوج حسنة الصوت في جمع غفير مصلين إلي الله بوجدان روحي غالب ..
بل رقص أمام برهان العهد الإلهي ورمزه  في قمة التحام الروح والوجدان بالتعبير الجسدي الشامل ما بلغ بنشوة الروح والوجدان معا ، و شركة الجسد المجلل بالامتنان ، منتهي الدين ، مسبحا الخالق الذي عظم الصنيع معهم .. وهو الرقص الذي أيدته السماء تأييدا صريحا كاسحا بمعاقبة المعترضين عليه ..
 
ففي هذا المشهد المذهل أعلن الله إعلانا باهرا لا لبس فيه أن الفن صنو الدين في مستهدفاته العليا ، ومنحه بركة علنية صريحة ، وأسبغ عليه الاعتراف والاعتبار والأهلية التي يصير بها نشاطا بشريا مشروعا يلتصق بالطبع البشري التصاقا جوهريا ، ويتحد بروح الانسان اتحادا لدنيا ، ويعبر عن الوجدان البشري تعبيرا مقدسا ، ليعانق الغاية الدينية للروح في فرحتها الغامرة بالخلاص الإلهي ..

إن الدلالة الروحية للفن لتؤكد أن "الموضوع الجمالي" ليس مجرد "موضوع ميتافيزيقي" أو "موضوع طبيعي" أو "موضوع سيكولوجي" أو "موضوع اجتماعي" ،  وإنما هو أولا وبالذات "موضوع استاطيقي" يتميز بعمق روحي وفردية أصيلة ..

لقد اندرجت الأشياء في عالم تجربتنا الإنسانية فاكتسب "المحسوس" "صبغة روحية" ،  وأصبح هو ذلك الموضوع الذي يعبر عن وحدة "الكوني"  و "الوجودي" ،  ما يكشف عن الأصل الجوهري في الفن الذي يتم بمقتضاه الاتحاد العجيب بين "المادة" و "الصورة" .. بين "الشكل" و "الموضوع" .. بين "الموجود في ذاته" و "الموجود لذاته" .

أن غاية الفن تتحقق بالضرورة في شيء يوجد خارج الفاعل ، وليس علي الفاعل سوي أن يحقق إرادته فيه ، في حين أن غاية الدين تكمن في الإرادة ذاتها ، وفي الفعل الباطن للفاعل نفسه ، غير أن الإرادة المتحققة في الفن ، والدين الكامن في الإرادة ، هما وجهان لشيء  واحد متحد في الإنسان يؤكد علي الدوام أن الدين والفن صنوان لا ينفصلان ولا يتعارضان البتة في الروح الإنسانية والوجدان البشري.