خالد منتصر
عندما سألنى صديق " بعد دراستك الطويلة فى كلية الطب، وبعد مرور كل تلك السنوات عليك فى تلك المهنة، ماهو أقسى مرض يصيب الانسان؟" ، كان ردى بكل بساطة وحسم ودون تردد إنه ألزهايمر، سألنى مندهشا هل هو أقسى من السرطان؟ قلت له نعم، ألزهايمر أقسى من السرطان، كانت لدى أسبابى التى جعلتنى مقتنعا بهذه الإجابة ومصرا عليها، وهى أنه مرض يفقدك الهوية، البصمة الإنسانية، ليس مجرد وهن فى الجسد، أو عطب فى الوظائف الفسيولوجية، أو فقدان لحيوية أو حركة ...الخ، إنك فى ألزهايمر لست أنت الذى كنته، أنت إنسان مختلف كلية، تتساءل أمام أبيك وبكل جدية، هل أنت أبى الذى عرفته طيلة تلك السنوات؟، تحدق فى وجه أمك حائرا، هل أنت أمى التى ولدتنى من رحمها، وقامت برعايتى حتى الأمس القريب؟، ليس مجرد نسيان، بل طمس هوية، لذلك هو أقسى مرض فى الكون وبدون منافس، حقا ليس فيه ألم، ولكن فيه ما هو أقسى من الألم، الفناء وأنت تتنفس، تبخر معنى الحياة وذوبان جوهرها وتفتت نواتها، وكما يحاول العلم فى مختبراته أن يسبر أغوار المرض ويكتشف له العلاج، يحاول الفن أن يفهم ويستوعب ويشرح ويرصد ماهية هذا المرض، الرواية والسينما بالذات كانتا لهما السبق والنصيب الأكبر فى تناول هذا المرض، بالمصادفة هناك رواية انتهيت من قراءتها منذ يومين وهى لها الفضل فى فكرة هذا المقال، وهى للشاعر والروائى السعودى غازى القصيبي، اسم الرواية ألزهايمر، تحكى عن يعقوب العريان الذى أحس ببدايات ألزهايمر وهو يشترى العطر الدائم الذى يشتريه لزوجته، وجد نفسه ناسيا تماما،

بدأ رحلة التشخيص فاكتشف أنه فى بدايات ألزهايمر، فقرر أن يسافر إلى أفضل مصحة فى أمريكا حتى لا يصبح عبئا على أسرته، وأيضا ليكتب من هناك رسالة مطولة إلى زوجته قبل أن ينفذ مخزون الذكريات، تلك الرسالة هى الرواية، يقول فى بدايات الرسالة عندما يتغلغل العزيز ألزهايمر فى خلايا الدماغ سوف يحرق الماضى بأكمله، آه، سياسة الأرض المحروقة، أرض الماضى المحروقة، هذه الفكرة على الأخص هى التى تسبب لى الكآبة، أن أصبح رجلا بلا ماض، بلا ذكريات، بلا أمس، تصوري! أن ينسى الإنسان ابتسامة أمه المضيئة، أن ينسى ملامح أبيه الرضية، أن ينسى كل صديق عرفه، أن ينسى اسم زوجته، أليست هذه كارثة الكوارث"، يظل بطل الرواية يطارد ذكرياته على الورق قبل أن تفلت وتتسرب من خلايا مخه المجهد بترسبات الأميلويد التى تحول خلايا هذا المخ المتوهج إلى مجرد حساء ليفى لا حياة فيه ، يتساءل ماذا يبقى للإنسان فاقد الذاكرة، فيصرخ على الورق " عندما يذهب كل شيء، أى معنى يبقى للسعادة؟ ماهى السعادة؟ أليست السعادة فى التحليل النهائي، مجموع التجارب السعيدة؟ بلا ذاكرة لا توجد تجارب، لا يوجد سوى الفراغ ..فراغ الموت "، يحكى المؤلف عن تجربة ابنة مع أمها والذى سجلته فى كتاب عنوانه " الموت بسرعة بطيئة" مع عنوان جانبى " مذكرات ابنة وأمها مع وحش يسمى ألزهايمر"، الابنة روائية أمريكية تقارن فى كتابها بين ألزهايمر والموت قائلة" إذا كنت لا تصدق أن ألزهايمر يعادل الموت فجرب أن تعيش معه سنة ونصف السنة، إنه أسوأ من الموت، فى الفترة الطويلة التى تسبق الموت يختفى المريض ويحل محله شخص آخر يدعى أنه هو، وأنت عبر اللقاء اليومى الحميم مع المريض، تصبح نسخة مرعبة شاحبة من نفسك القديمة، أنت، بدورك، تبدأ فقد ذاكرتك، أنت بدورك تطور نوعا من النسيان ذا طبيعة قاسية، لا يعود بوسعك أن تتذكر الشخص الطبيعي، الشخص الذى عرفته قبل المرض، بطبيعة الحال، يمكنك أن تتذكر على نحو ما ، ولكن الذكريات الحقيقية محجوزة خلف زجاج سميك لا تستطيع أن تخترقه لتصل إليها "، هذا القاتل المتلصص كما يطلق عليه بطل الرواية فى رسالته إلى زوجته لم يستطع هزيمته الحب ولا الإيمان ، يقولون إن الحب أقوى من الموت، لكنه لم يستطع الانتصار على هذا اللص القاتل اللئيم، ريجان كان يحب زوجته نانسى حبا عميقا نادرا، عندما داهمه المرض، كانت نانسى هى الوحيدة التى يعرفها من كل أفراد الكوكب، لكنه فى النهاية نسيها كما نسى كل شيء، ماذا عن الايمان؟ أليس هو أقوى من الحب، أليس هو الذى يدفع بالشهداء إلى «الشهادة؟ هناك كتاب ألفه قسيس أمريكى أصيب بألزهايمر فى مرحلة مبكرة من حياته، إسمه« رحلتى إلى ألزهايمر»، يحكى فيه المعركة الضارية بين ألزهايمر وبين الإيمان، بعد أن تفاءل فى البداية بقدرة صلواته المرتبكة على إنقاذه، كتب فى النهاية" لقد اعترفت بخطاياي، وآمنت بالقدرة على خلاصنا، إلا أننى فى ظلام الليل والوقت لا أشعر بوجود الأب، الرابطة تحطمت كهاتف بلا أسلاك لا أسمع منه شيئا ، أشعر أنى طفل يتيم ضائع ومهجور لن يعرف طريقه أبدا".

أتمنى أن يقرأ العلماء الفنون التى تحدثت عن ألزهايمر، فغموض هذا المرض لن يحله إلا تضافر العلم مع الفن.
نقلا عن الأهرام