محمد أبو الغار
رحلت، الأسبوع الماضى، شخصية مصرية عظيمة ومؤثرة أدت خدمات للوطن وللإنسانية وللشباب وللفن، وكأنها وزارة ثقافة أهلية تمشى على قدميها. وُلد أبونا وليم في قرية جراجوس الفقيرة في محافظة قنا عام 1948، وسافر إلى القاهرة، والتحق بالتعليم بصعوبات كثيرة، كان أهمها الفقر، الذي كان ملازمًا لمعظم المصريين. ثم كافح ودخل كلية الآداب قسم الفلسفة، وسافر بعدها إلى باريس، وحصل على ماجستير عن ابن رشد، ودخل سلك الرهبنة اليسوعية في جيزويت القاهرة.

كانت له فلسفة خاصة، وهى أن الراهب ليس بالضرورة أن يكون منغلقًا على نفسه في الرهبنة، ويعيش في صومعة يتعبد. يقول أبونا وليم هذا طريق في الرهبنة، ولكن هناك طريق آخر، وهو خدمة البشر بكل الطرق الممكنة. وقام بإنشاء مشروع ثقافى مذهل في وسط القاهرة وفى منطقة الفجالة الشعبية، وقام بتسجيل جمعية أهلية سماها جمعية النهضة العلمية والثقافية الجيزويت عام 1998. والجمعية كانت تضم مسلمين ومسيحيين يعملون في نشاط ثقافى مع الآباء اليسوعيين، وفى عام 2016 أسس أكاديمية النهضة للفنون والآداب ليمارس نشاطها في استوديو ناصيبيان في جزء منفصل عن مدرسة الجيزويت، وتأسست مدرسة السينما عام 2005 وهى تقوم بتعليم فنون السينما للشباب والشابات وتشجع السينما المستقلة، وقامت المدرسة بنشاط كبير في أسيوط والمناطق النائية لمَن لم يكن لديه القدرة على دخول معاهد السينما الحكومية، وقامت مدرسة أسيوط للسينما المستقلة بعمل عدد من الأفلام المتميزة وبسيطة التكاليف. ثم أنشأ مدرسة لتعليم وتدريب الشباب على المسرح، وتكونت فرق مسرحية نشطة، ثم أنشأ مدرسة لتعليم صناعة الأفلام المتحركة ومدرسة للعلوم الإنسانية. وعندما كتبت عن الجمعية منذ بضعة أعوام تبرع المهندس سميح ساويرس بمبلغ مليون جنيه للجمعية، وفعلًا تم شراء أجهزة صوت حديثة، وتم إنشاء استوديو حديث للتسجيل والتوثيق. وفجأة، حدث الحريق الذي قام بتدمير استوديو ناصيبيان وحجرات التسجيل والأجهزة، وكانت صدمة ضخمة للجمعية ولأبينا وليم، وحاول الجميع المساعدة، ولكن الظروف الاقتصادية العامة لم تساعد في تدبير ما يكفى لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. ما قام به أبونا وليم عمل عظيم، ولكن الأعظم هو روح أبينا الشبابية البسيطة الملهمة، التي أشاعت في الشباب البهجة والسعادة والنشاط لأنه كان شعلة نشاط وأفكار جديدة.

للأسف الشديد، كنت في أرمينيا حين رحل أبونا وليم، وبنظرة بسيطة للحضور في الجنازة، تجد أن مصر كلها كانت هناك، المسلمين والمسيحيين، كبار المثقفين وأعداد من الشباب الجميل المهمش الذي رأى في أبينا وليم أبًا حقيقيًّا يأخذ بيده ويساعده. تواجد الفنانون من كافة المستويات والسياسيون والكُتاب والشعراء وكل محبى مصر الحقيقيين والمخلصين. كنت أود أن أكون هناك لأقول له وداعًا.

تقول هناء ثروت التي عملت كسكرتيرة له لمدة 9 سنوات إنها كانت تراه يفكر ويحلم وينفذ كل أفكاره، ثم تستطرد أنها تعلمت منه ثقافة الاعتراف بالخطأ والاعتذار، وكان يصاحب الجميع من الجيران السايس والميكانيكى وزبائن قهوى بلبل. وقال عنه الباحث إبراهيم ناجى إننا بحاجة إلى دراسة موسعة وعميقة حول الأبعاد الإنسانية والاجتماعية واللاهوتية التي شكلت فكر وقلب نموذج هذا اليسوعى العملاق، الذي هو أحد سفراء العمل الاجتماعى والفلسفى واللاهوتى بمصر وخارجها.

أبونا وليم كان الكاهن المسيحى الوحيد، الذي نزل إلى ميدان التحرير ليشارك الشباب فرحتهم وسعادتهم في 25 يناير، وقام بكتابة يوميات كاهن في زمن الثورة (لاهوت التحرير المصرى). وكان أبونا وليم ليبرالى التفكير ويساريًّا في نظرته للأمور الاقتصادية لأنه شاهد بنفسه منذ طفولته الفقر الشديد، وشاهد ذلك بعد أن أصبح قائدًا لمجموعات كبيرة من الشباب، فعرف أن هذا الشباب الجميل المتعلم والمغرم بالفن وتطبيقاته المختلفة عنده مشاكل اقتصادية كبيرة، ولذا رأى أن تقريب الفوارق بين الطبقات أمر مهم. وهو في مظهره وملبسه كان يمثل البساطة ويعيش حياة شديدة البساطة ويوفر كل مليم ليساعد الشباب والجمعية الأهلية.

أسعدنى الحظ بالتعرف على أبينا وليم منذ زمن طويل، ولكن المسافات قربت، والاتصال أصبح بصفة روتينية، فسعدت بالمشاركة في نشاطات الجمعية. وعندما قررت مجموعة من الأصدقاء إقامة جائزة ثقافية تقدمها جمعية تحالف المصريين بأمريكا الشمالية وعهدوا لى بتنظيم الجائزة اتصلت بأبينا وليم، وأُقيم حفل تسليم الجوائز في مقر الجمعية، وسُميت جائزة يحيى حقى. وعندما تم الاحتفال بمرور 50 سنة على رهبنة أبينا وليم سعدت بالحضور من الفنان وجيه وهبة.

مصر في حاجة إلى خمسين أو مائة أبينا وليم يقدرون الفن وأهميته للشباب، الذي إن لم يُفتح له مجال واسع في الفنون والرياضة فسوف يتجه إلى الأفكار الظلامية التي تكتسح شبابنا هذه الأيام. هذا النوع من الجمعيات يجب تشجيعه وحمايته لأن القوانين الصعبة غير العصرية تقيد هذه النشاطات وتُضاف إليها البيروقراطية الحكومية ووزارة التضامن والشك الأمنى في كل نشاط فنى أو ثقافى.

تبقى الآن مسؤولية كبيرة على الآباء اليسوعيين في ترشيح أحدهم للقيام بالمسؤولية في الجمعية. أعلم جيدًا أنه لا أحد يمكن أن يقوم بما كان يقوم به أبونا وليم، ولكن وجود رمز شىء مهم. الباقى على قيادات جمعية النهضة، ومنهم شباب واعٍ مؤمن بأهمية الفن وأهمية حماية الشباب، عليهم أن يلتفوا جميعًا حول الجمعية ويخلقوا مجالًا للتنافس في خدمتها والعمل على رفع شأنها حتى لا تسقط وتنهار. وعلى كل مَن كان يعرف أبانا وليم أن يمد يده بالمساعدة الممكنة، وأن يقوم شباب الجمعية بتمهيد الطريق للاستمرار، وذلك بعمل برامج تصلح لاستمرار المسيرة في غياب الأب القائد المخلص. وهنا نقطة مهمة، وهى المؤسسون، كثير من الهيئات الأهلية وحتى المشروعات الخاصة تقوم على فكر وتنظيم ونشاط مفكر واحد، وعندما يغيب القائد ينهار كل شىء. لابد أن يقوم كل قائد فرد بتنظيم الأمور بطريقة تضمن لها الاستمرارية.

رحل أبونا وليم العظيم فلروحه السلام، ولكى نخلد اسمه يجب أن نعمل جميعًا على استمرار النشاط لتكبر الجمعية.

قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.
نقلا عن المصرى اليوم