كمال زاخر
الأربعاء 24 مايو 2023
هذا الفصل يصح تسميته "إعداد الخادم بحسب بولس الرسول"، والخادم هنا عنوان يندرج تحته كل من يُختار لخدمة الكلمة وخدمة النفوس وخدمة القرية والمدينة، ومن ثم فهو الأسقف وما يتبعه من درجات ورتب الإكليروس، وهو أيضاً مختلف الخدام من المدنيين، بل أظنه خارطة طريق للمعاهد الإكليريكية الساعية لضبط بوصلة الخدمة الليتورجية وخدمة الكلمة وبناء كنيسة مقدسة جامعة رسولية.

لم يكن القديس بولس منغلقاً على الثقافة الدينية، بل كان مشتبكاً مع العديد من الدوائر المعرفية والثقافية والعملية فى زمنه، ويورد الكاتب العديد من المصطلحات والتوصيفات المتداولة فى الحياة اليومية وفى العديد من المجالات الحياتية، وقد استخدمها ووظفها ق. بولس فى إيصال المعنى الذى يريد ايصاله للمتلقى فى رسائله، الأمر الذى يكشف عن موسوعية فكر وثقافة الرسول بولس، وقد طوعها لخدمة الكلمة، فى تصالح واضح مع الثقافة العامة والحياة.

فاستعار مفردات ميادين السباق، وقوانينها، وأدوات الحرب وأسلحته، وكذلك لغة المحاكم والقضايا، "فالتبرير" بمعنى حكم البراءة، فى مقابل "الدينونة" وهى "حكم ادانة"، والأكثر إثارة ما أورده الكاتب "كما نسمع من بولس الرسول عن اصطلاحات التمثيل والمسرح وجمهور النظارة: (فإننى أرى أن الله أبرزنا [قدمنا للعرض] نحن الرسل آخِرين [مشهد أخير]، كأننا محكوم علينا بالموت لأننا صرنا منظراً [تياترو] للعالم للملائكة والناس ـ 1كو9:4).

ويستكمل الكاتب اقتباسات القديس بولس من شئون العمارة وتفاصيلها، "كبناء حكيم [باشمهندس] قد وضعتُ أساساً وآخر يبنى عليه. ولكن فلينظر كل واحد كيف يبنى عليه ـ 1كو10:3"، وكذلك من أرباب الحرف "أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من  كتلة واحدة إناءً للكرامة وآخر للهوان ـ رو21:9" مع أن بولس الرسول نفسه هو صاحب حرفة صناعة الخيام.

ويوالى الكاتب رصد اصطلاحات ق. بولس من شئون التجارة، عربون الروح وعربون ميراثنا، ولغة البحارة والأسفار بالبحار "الذى هو ـ المسيح ـ لنا كمرساة (هلب) للنفس، مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب ـ عبرانيين 19:6"

ويهتم الكاتب بـ "الاصطلاحات الأكثر استخداماً، التى أدخلها بولس الرسول فى لغته وكانت محببة إليه هى اصطلاحات القضاء والمحاماة، وكذلك الحرب والتسلح والتمرين، وفى العالم القديم ـ الذى عاش فيه بولس الرسول ـ لم نسمع منه على يد أى مؤرخ شيئاً عن بولس قط. لأن بولس كان فى الحقيقة هو (الإنسان الجديد) وسط هذا (العالم القديم). فعاش بولس ومات ولم يستشعره مؤرخ أو فيلسوف، وهذا لا يحسب حجة ضد بولس، بل يحسب حجة ضد الأرستقراطية الميتة التى كان يعيشها عالم بولس."

ليست المصطلحات فقط هى التى ميزت كتابات القديس بولس، لكن الباحث يكتشف إستخدامه وسائل التعليم بالتشبيه والتمثيل؛ وهو ما تتبعه الكاتب، فى مشاهد عديدة حملتها رسائل ق. بولس؛ مثل حبة الحنطة وكيف تقع وتموت أولاً ثم يتغير شكلهاإلىى جسم آخر حى ينمو ويثمر، ويطبق ذلك على حقيقة الموت بجسد أرضى ثم القيامة بجسد آخر روحى ... كذلك قدم مثل الجندى فى الحرب  يتحتم على الذى يجنده أن يكسيه ويطعمه ثم يطبق هذا المثل على وضعه الروحى هو، كرسول مجند للمسيح. ولكن لحساب من يعظهم ويعلمهم، وينبههم أن يوفروا له المعيشة وتكاليفها، ويدعم كلامه بأسانيد من الناموس والتوراة. وهو هنا يضع قدميه والكنيسة معه على أرض الواقع، فلا تستغرقه عوالم غيبية، وهو ما أكده حين أعلن أن حاجاته وحاجات من يعاونوه تكفل هو بها من عمله.

ويوظف القديس بولس المنطق فى طرح ايمانه ورؤيته، حين يتعرض للقضايا اللاهوتية المحورية فى الإيمان المسيحى، عبر مقاربات ومقارنات لا تنقطع بين قضيتى السقوط والخلاص، وبين فعل آدم الأول وبين فعل المسيح آدم الثانى، وحتمية التجسد الإلهى، فالطبيعة التى أدخلت اللعنة، يلزم بحسب العدل أن تكون هى التى تُدخِل البر. ويعلق الكاتب "هذا منطق عدالة الله، وفى نفس الوقت هو منطق المناسبة لدى فكر الإنسان. ثم عاد بولس الرسول ليقارن بين سبب الخطية وعنصرها الأساسى وهو عصيان آدم، فى مقابل سبب البر وعنصره الأساسى وهو طاعة المسيح لله، لتوازن عصيان آدم. ولكن كم تكون حد المعادلة من طرف المسيح الإنسان بسبب لاهوته أقوى مئات وملايين المرات بلا عدد بالنسبة لحد المعادلة من طرف آدم؟"

"لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ ـ الترابى ـ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا (مع الفارق الهائل) بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ ـ السماوى الإلهى ـ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا. !!" (رومية19:5).

"فمهما ازدادت الخطية فى العالم بالإنسان الأرضى، فالنعمة بالإنسان السماوى (المسيح) كفيلة باجتثاثها اجتثاثاً، لأنها أقوى بما لا يُقاس، على أساس أن عامل الخطية ضعف إنسانى، أما النعمة فعاملها قوة إلهية".

تحت عنوان "المنهج التأملى الحر عند بولس الرسول" يقول الكاتب "الحوار فى المنهج التعليمى عند الفريسيين أصيل، لإذكاء الفكر لقبول الحقيقة، ولكن كثل هذا المنهج يحتاج لمؤهلات ليكون المُحاور مقتدراً، أهمها أن يتوفر له طول النَفَس وهدوء الأعصاب مع شئ من الدهاء، وهذه كانت تُعوِز بولس الرسول، فهو عاطفى، تأثُّرى، مندفع، غيور. كذلك فإن المنهج الجدلى يحتاج إلى خطة ذات هدف محدد يسير نحوها المُتحاور دون أن يتوه فى الطريق، وبولس الرسول عكس ذلك، فهو بعد أن يبدأ الشوط ويحدد الموضوع الذى سيقتحمه، وإذ ننتظر منه السير فى الاتجاه الذى حدده، نجده يعرِّج فى الطريق على موضوع آخر، أو يشغله حماسه بخصوص الفضائل أو  السلوك فيستغرق فيه، وقلما يعود إلى ما بدأ به الحديث.

وهو ـ ومازال الكلام للكاتب ـ فى رده على المهاجمين والمتلصصين على تعليمه وحريته فى المسيح لا يحاجج، ولكنه يهاجم، ويفضح النيات الداخلية: "يَمْنَعُونَنَا عَنْ أَنْ نُكَلِّمَ الأُمَمَ لِكَيْ يَخْلُصُوا، حَتَّى يُتَمِّمُوا خَطَايَاهُمْ كُلَّ حِينٍ. وَلكِنْ قَدْ أَدْرَكَهُمُ الْغَضَبُ إِلَى النِّهَايَةِ." (1تس16:2).

ويتتبع الكاتب منهج القديس بولس فى الدفاع المتدفق والمتلاحق "المستند على النعمة التى تضئ ذهنه"، "فهو لم ينقل عن أحد قبله"، وينتهى الكاتب إلى أن المساهمة اللاهوتية المتسعة والمتفرعة والمتعددة المواضيع التى قدمها بولس الرسول للمسيحية تقف على قاعدة عريضة، مستكملة بالبرهان واليقين، أتته فى مناسبات كثيرة كدفعات إلهامية استةعبها من الله والنسيح مباشرة."

ويصف الكاتب لاهوت بولس الرسول بأنه "ليس لاهوتاً نظرياً بل هو لاهوت إلهامى مسنود بالنعمة، وعمقه لا يأتى عن عمق تفكير وتحليل بل عن استعلان تلو استعلان، والنعمة أمنته ضد مواطن الزلل ومواطئ الإنحدار، فجاء لاهوتاً صافياً صفاء السماء التى منها انحدر."
ثم يتعرض الكاتب إلى "المصادر التى يستند إليها  بولس الرسول فى تعليمه"، وهو ما سنعرضه فى المقال القادم.