بقلم

فيفيان سمير 
 
أعشق رائحة الورق وملمسه الخشن، مازلت رغم كل التكنولوجيا والتقدم والهواتف التي لا تفارق أيدينا، احن للسباحة بين الكتب على ارفف المكتبات، أعيش ذلك الإحساس بالبهجة والنشوة، وأنا أتأمل الأغلفة الملونة، والاحرف التي تعلو هامات الصفحات تسحبك خارج الزمان والمكان، تلقي بك بأحضان الخيال وتراقصك على نغمات الكلمات بين أذرع الابطال. يمكنني أن أبقى كذلك لساعات ولا أمل أو حتى أشعر بمرور الوقت الذي عادة ما يسرقني وأنا في عالمي المسحور. 
 
التقت ايدينا عند نفس الكتاب، أنه هو، نعم هو، من ظللت أنكر وجوده بمكان ما بهذا العالم، وأقنع نفسي أنه لم يكن له وجود من الأصل، أردد كل يوم من الشهور الماضية، أنه مجرد أحد شخوص كتبي الكثيرة المكدسة إلي جوار سريري، وقد تجرأ وغادر السطور ليكون خيال إنسان يتجول بحياتي وينساب داخل روحي، يعبث بمشاعري ويبعثر أيامي على رصيف انتظار مروره، ليخطف جزءا مني ويعود من حيث أتى يسكن إحدى الحكايات . 
 
كطفل يبكي حضن امه، اتاني يحبو علي كفي، بخفقة قلب مكسور، يبحث بين انفاسي عن دفئ انفاسها، عن ملامح روحها، عن ذلك الحب الغامر الغافر ليغرق فيه، يختبئ من برودة العالم بدونها، ودنيا رغم رحبها، اضيق من لحظة يلقي فيها برأسه علي صدرها، يتخفف من حموله ويشاركها همومه الكثيرة، ويريح عاتقه المثقل بمسؤولية كل من حوله ولا يجد بينهم من يحمل عنه ولو القليل. 
 
بسطت القلب يحتضنه، يهدهد الطفل الحزين، التائه داخله، يكون له مرسي حين تضطرب سفينته، كلمة امان في وجه طوفان الازدحام، واحة يهرب اليها لحظات، يلتقط انفاسه، ويسكن الي طيف ام تسكنه، يراه بروحي السابحة بروحها اليه. كلما المني غفرت، كلما زاد في أنانيته أعطيت، كلما غاب عاد ليجدني، حتى ذهب فانتظرت وانتظرت رافضة الاعتراف أنه غادر، رحل ولن يعود. 
 
"عشرات المرات وقفت بشرفتي أنظر الطريق الممتد امامي، بعقلي أعلم علم اليقين أنك لن تمر من هنا ولو صدفة، بقلبي أنتظر أن المحك مارا ولو من بعيد، اوتعلم حجم الألم الذي سكنني في كل مرة يعاود قلبي الانكسار لأنك لم تمر، في كل مرة أسحق قلبي المكسور تحت قدمي لأخرس صرخاته، والوذ بالصمم كي لا أسمعها فأضعف، اوتعلم حجم الجنون في أن يرفض عقلك قبول حقيقة تدركها تماما، وتراها ماثلة أمام عينيك، لكنه يغلق دروبه في وجهها، ويشارف الجنون بل يختار الجنون كأنه اهون من التسليم بها، اوتعلم حجم الوجع في أن تكون مهان ومباع لكنك مازلت رغما عنك شاري، رغما عنك تحن وتشتاق". 
 
كنت اطل كل يوم مرات ومرات علي صورته المعلقة بجدار صفحة حسابه بمواقع التواصل الاجتماعي، فأنا لا أملك سوى ذلك، يقتلني شوقي اليه، وسؤال يتردد داخلي يكاد يذهب عقلي، لماذا؟ لماذا الغدر؟ لماذا الرحيل دون وداع؟ لماذا الإهانة والترك والخذلان؟ آلاف لماذا بلا جواب. اذهب إلي سريري فيجافيني النوم ويسرق الوجع ليلي، وتطاردني أشباح تساؤلاتي المرهقة التي تغلي بصدري. ثم تحول الشوق واللهفة إلي ثورة ورفض وغضب، لكني كنت مازلت لا أستطيع ان امنع نفسي من الذهاب إلي صفحته، وتأمل صورته، ومازالت اسئلتي تضج برأسي وتفور بأرجاء روحي. لم يكن غضبي منه بقدر غضبي من نفسي، أن قبلت من البداية تلك العلاقة المهينة، التي تسير في أتجاه واحد ينكر فيه الطرف الثاني أن لي عليه حقوق، مساوية لحقه علي، لم يكن حزنا عليه بقدر ما كان حزنا على كل ما أغتصب مني بغير حق، على كل نظرة احتضنته بها، كل لمسة أرتجف لها قلبي وتوحدت معه فيها، على كل أحساس عشته معه وله، على كل لحظة قلقت عليه وأنخلع قلبي لألمه، على كل ذكرى حلوة بيننا مررها ثم سرقها ورحل.  
 
    وذات صباح، وكعادتي التي أصبحت يومية بمجرد أن افتح عيني ابحث عنه، وجدتني أمام صورته لا أشعر بشيء علي الإطلاق لا حب ولا كره لا شوق ولا غضب، فقط لا شيء. أصبحت مشاعري محايدة تماما، غير مبالية بتلك الصورة التي تحمل ملامح شخصًا غريبًا عنى، وكأننا لم نلتقي يومًا، فقد سقط تاريخه وذكرياته من جدران القلب والعقل، مات بداخلي واقمت مراسم دفنه دون أن أعي. 
 
    لم يعد سوى مجرد اسم ضمن آلاف الاسماء علي حائطي، والتي لا أعرف اصحابها، ولا أتذكرها حين أغلق هاتفي. 
 
أطلت النظر لأتأكد أني أراه، أنه هو الواقف يفصل بيننا مجرد كتاب تعانقه أيدينا، يبادلني نظرات باردة صامتة، أشحت بوجهي الخالي من أي تعبير، وابتعدت. عدنا غرباء