بقلم: فيفيان سمير
استقريتُ بمقعدي بجوار نافذة الطائرة المتجهة إلى كندا مرورا بفرانكفورت، أصطحب معي أصدقائي، رفقاء الرحلة الطويلة، رواية شيقة وحاسوبي. الظلام بالخارج مُقبض جعلني أهرب بعيني داخل كتابي فلم أشعر بحركة المسافرين الذي يتخذ كلٌ منهم مكانه استعدادًا للإقلاع. غرقت بروايتي لأفيق على صوت يناديني باسمي، وقد نسيت أنني لست بحجرتي مستلقية على سريري. نظرت إليه بنصف وعي واستغرقت بضع ثواني لأجيبه بترحاب من وجد عمرًا كاملًا يعود.

لا أعلم متى كانت أول نبضة زائدة بقلبه ولكن بغريزة الأنثى عرفت أنه بي مفتون. كنت لم أخلع رداء المراهقة بعد، حين رأيت صورتي مطبوعة في عينيه الخجولتين، وشفتيه الباسمتين المتلعثمتين كلما تقابلنا. بطبيعة القرابة كنا نلتقي من آن لآخر، في كل مرة يتراقص داخلي شعور باللذة والنصرة في أسر قلب ذلك الفتى الوسيم. وكأحلامِ الصبايا تمنيتُ أن أسمع منه كلمات الحب والغزل، لكنه ظل صامتًا. لم ترضني ولم تكفني نظراته الصارخة، ولا لمسة يده المرتجفة وهو يحوم حولي كفراشة تجذبها النار المشتعلة.

تجاوزت مراهقتي وخطوت إلى مرحلة الشباب التي سبقني هو إليها منذ عدة سنوات، وظل قلبه معلقا بي في صمت، لكن مرحلة الانبهار والاستمتاع بمشاعره تجاهي، كانت قد خبت وانطفأت جذوتها داخلي، كذلك قلت مقابلاتنا لدرجة أني نسيته.  تخليت عن عالم الأحلام وقابلت بواقعي من خفق له قلبي، حتى وجدته يوما بمنزلنا الذي كان من الطبيعي أن يزوره، وفوجئتُ به يقول لي بشكل مباشر ودون مقدمات "أريد أن أتزوجَكِ". للحق صدمتني كلماته فلم أكن أعلم أنه مازال يحمل تلك المشاعر بعد كل هذه السنين. ارتبكت قليلا، لكنني أجبته بحزم وبصراحة أن قلبي امتلكه شخص آخر، ولن أرتبط بسواه.

لم أره بعد ذلك اليوم إلا مرات نادرة في مناسبات عائلية، دون أن يدور بيننا أي حوار، فقد كان كلٌ منا يتجنب الآخر متعمدًا، وكانت أخر مرة نتقابل فيها منذ سبعة عشر عامًا يوم رحيل أبي.

خلال السنوات الماضية فقدت الإنسان الوحيد الذي أحببته، وانطويت على نفسي وأغلقت بابي دون الحياة. اكتفيت بالغرق في عملي الذي يلزمه الكثير من الخيال، فانفصلت عن الواقع وعشت حياة أبطالي، واكتفيت بأن أراقب قطار العمر وهو يرحل مبتعدًا.  

أستأذن المسافر الجالس بالمقعد المجاور لي في أن يتبادلا المقاعد وجلس مبتسمًا. كان ودودًا دافئًا ومرحًا كأن الزمان لم يمر. تكلم كثيرًا وحكى كل ما مر به وما وصل إليه، والشهادات التي حصل عليها، ولم ينسى أن يذكر أنه لم يتزوج.

كنت أستمع إليه باهتمام وكأني أعيش معه كل تلك الأحداث. حين انتهى من سرد حكايته وهم بسؤالي عما فعلت بي الدنيا حتى الآن، كانت الإذاعة الداخلية للطائرة تعلن وصولنا فرانكفورت.

كان أمامنا ثلاث ساعات نقضيها بمطار فرانكفورت قبل أن نستأنف رحلتنا لكندا.

سألني إذا كنتُ أرحب بصحبته لي لباقي الرحلة، أم نكتفي بهذا الجزء منها ونفترق هنا، ليكمل كلٌ منا رحلته بمفرده. انسلت يدي دون وعيًا مني لتتشبث بذراعه حتى يبقى معي، ربما أرهقتني الوحدة دون أن أدري، أو ربما كنت أعيد داخلي مرحلة مراهقتي، وأعيش جمال مشاعري حينها، كخلفية تفرض نفسها على عقلي الباطن، أثناء حديثه ووجوده قريبًا مني إلى هذه الدرجة لأول مرة.

كم تمنينا أن نبقى أمنين بين أحضان إيماننا الطفولي البريء بالحياة، وكم نرغب أن نعيش ولو لحظات داخل طيف ماضي ليته يعود.

جلسنا لاحتساء القهوة واستكمال حديثنا الذي جاء دوري فيه. نظر إلي يتأملني في صمت، لكنني لم أجد رغبة في داخلي لسؤاله عما يبحث بين ملامحي، فآثرت أن أشاركه الصمت إلى أن يعود من شروده. لم يطل ترحاله بين سطور الزمن على وجهي، وبادرني بسؤاله "أين أنتِ؟ أين تختبئ روحك؟ تلك التي كانت تحيط بكِ كهالة من نور، تلك المشاغبة المرحة التي كانت تخترق حدودي وتأسرني، التي لم تدع مكانًا لغيرها داخلي، التي كانت ترقص بنظراتك وتلهو على شفتيك بابتسامة لا تغيب، تلك التي بحثت عنها دهرًا في كل امرأة قابلتها، ولم أجد حتى شبيهة لها."

أجبته ساخرة "أهديتها لأبطال رواياتي لأبث فيهم الحياة وأمنحهم جزءًا مني". بالطبع لم ترضه الإجابة، وحين فرغتُ من سرد قصتي التي بلا تفاصيل كثيرة، لكنها ذات أوجاع مازالت تلقي بظلها على حياتي، لمعت بعينيه نظرة هي خليط بين الألم لألمي والأمل في تغيير القدر، واللحاق بما تبقى لنا من أيام تهدرُها ساقية الزمن. واجهتُ نفسي بذلك السؤال الذي بدى خلف تلك النظرة. "هل موقفي منه تغير؟ هل إيجابه السؤال الذي مر عليه أكثر من عشرين عامًا تغيرت؟" لكنني في تلك اللحظة لم يكن لدي ردٌ قاطعٌ، حتى بيني وبين نفسي.

أعرفُ أن الحب قويٌ كالموت وحين يسجن أحدًا داخله لا يطلق صراحه إلا ليسجنه من جديد. من منا لا يفضل الاحتراق في النور على الموت في برودة الظلمات، لكن هل نستطيع العبور بهذه البساطة وبمجرد قرار؟ خاصة وقد استقرت داخلي فكرة أن من هي بمثل سني فاتها قطار الحياة، وسقطت من ذاكرة الحب، وعليها أن تجتر الذكريات وكفى، فأغلقت قلبي على الوحدة والفراغ وأضعت الأحلام داخل غرفة مظلمة بلا نوافذ أو أبواب. لكن هل يبعث حيًا طائر الحب من رماد الماضي البعيد، لينسج ذلك الخيط الرفيع بين قلوب تاهت في بحر النسيان.

خرجت من غيمة أفكاري على ارتعاشة يدي، التي أسقطت بعضًا من قهوتي الساخنة لتصيبني بحرق طفيفٍ، لكنه انتفض كأنه هو الذي احترق. أسرع ينظف يدي ويلفها بضمادة للحروق، كنت أجد صعوبة في مقاومة تركيبته الحالية، من البساطة وخفة الروح والمرح وضحكته التلقائية. ما أسهل الاسترخاء والتصرف على طبيعتي معه. كان مختلفًا عن ذلك الفتى الخجول الذي عرفته يومًا.

تعلقت حواسي به، أحسست برغبة جامحة في ترك روحي تغرق في عناق عينيه، وفي ترك الرغبة المنسية لتزهر دون رقيب. اقترب مني يهمس " ربما كان خطأي أني لم أقلها في حينها، لكنني كنت واثقًا من معرفتك بها. نعم أحبك، أحببتك عمرًا كاملًا حاولت خلاله وأد ذلك الإحساس مراتٍ ومراتٍ، لكنه كان دائمًا يعود كالسيل جارفًا قلبي لعمقه من جديد. أحببتك منذ وعيت أن لي قلبًا يدق ويمكنه أن يحب. أحببتك دومًا ومازلت أحبك".

غاصت كلماته الناعمة إلى أعماقي تلمس وهي تغوص كل ذرة مني، تُضِيء أركاني المظلمة وتفتح ابوابي الموصدة. أغمضت عيني وكأني أرخي ستارًا بيني وبينه قائلة "أصبحت أخاف من كل شيء، من الاقتراب ومن الفراق ومن وجع الفقد، لا أريد أن أعيشه أو أمر بألمه ثانية. فقدت إيماني بالحياة التي أفضلها هادئة حتى وإن كانت بلا ملامح، لكن يكفي كونها بلا أعاصير. أنا لا أريد لأحد أن يدخل عالمي حتى لا يغادره، أخذًا جزءًا آخر من روحي، فلم يعد بها غير ما يبقيني فقط أتنفس لأكمل أيامي".

نظر إليّ نظرة دافئة، جعلتني أشعر بالارتباك، وبدلا من أن أتصرف كامرأة ناضجة، تراجعت إلى الوراء وكأني مراهقة مرتبكة، يهاجمها ذلك الإحساس المجهول، الذي يجعل منها أنثى لأول مرة. تسللت أصابعه وصولا إلى نبضاتي المتسارعة بمعصمي. كانت لمسة خفيفة وكأنها وعد، أحسست معها بالضعف لكن الغريب هو أحساس الأمان الذي صاحبها وانتشر بأنحائي.

أجابني " دعيني أؤمن بها لكلينا، وإن كان العمر يومًا واحدًا دعينا نعيشه دهرًا من السعادة".

أوقفت كلماته تعويذة السحر، أذابت جليدًا أحاط بقلبي لسنوات، واستولت عليه نظراته العاشقة، كشمس تخرج من خلف عتمة غيوم. رفع راحتي لشفتيه، فيما ارتفع صوت الإذاعة الداخلية للمطار، مناديا على ركاب الطائرة المتجهة إلى كندا، للتوجه إلى البوابة استعدادًا لصعود الطائرة. جلجلت ضحكته وهو يطبع قبلته قائلًا "لن أتنازل هذه المرة عن القبلة القديمة، التي ربما اختصرت كلامًا كثيرًا، وغيرت طريقًا طويلًا فصل بيننا، لو جاءت في ميعادها، لكنها تأخرت ربما لتزهر ربيعًا يدوم بميعاد الخريف". وانطلقنا سويًا لاستكمال رحلتنا الأطول وصولًا إلى وجهتنا.