من المجموعة القصصية فراشات المقهى

بقلم.. فيفيان سمير
دخلتْ ذلك "الجاليري" الراقي القائم بأحد المولات الحديثة، تتطلع إلى كل ما حولها في فضول، تحاول قدر إمكانها أن تداريه عن أعين من هم بالمكان من الزبائن والبائعين، الذي سارع أحدهم لخدمتها. أخذت تتأمل كل ركن وكل قطعة فنية من المعروضات، بعد أن طلبت من البائع أن يتركها تتجول بالمكان لدقائقَ، حتى تتخذ قرارها فيما سوف تبتاع. أخذها ذلك العالم بجمال قطعه، سواء اللوحات أو المنحوتات أو حتى قطع الديكور المحيطة بالمعروضات، والتي تعكس ذوقًا رفيعًا لمن صممها ونسقها بهذا الشكل البارع والبديع.

تقدم منها البائع ثانية راغبًا في مساعدتها، لكنها طلبت منه مقابلة صاحبة "الجاليري"، والتي هي هدفها من البداية وليس المعروض من التحف. اصطحبها الشاب بأدب جمٍ إلى حيث مكتب صاحبة المكان، واستأذن في دخولهما. رحبت بها السيدة بسيطة المظهر متواضعة الجمال، إلى الدرجة التي أشعرت ضيفتها بخيبة الأمل بل الصدمة، فقد رسمت لها صورة مغايرة تمامًا لما تراه، ولم تستطع مداراة ردة فعلها المتجلية بملامحها، والتي استقبلتها السيدة بتفهم واضح، وابتسامة هادئة لم تفارق شفتيها منذ دخول ضيفتها.

جلست صامتة لدقائقَ، ربما لتجمع شتات نفسها التائهة في دروب الفضول، للتعرف إلى تلك الجالسة أمامها ترسم ابتسامة مهذبة في انتظار معرفة كيف تخدمها، وربما لتجد مدخلا مناسبًا لا يفضح حقيقة الغرض من زيارتها، والتي ليس لها أية صلة بنشاط المكان، بل تستهدف شخص صاحبته، التي أخيرًا قطعت ذلك الصمت بالرد على سؤال زائرتها الذي لم تسأله، مُؤكدة أنها صاحبة المكان، مستفسرة عما تستطيعه لمساعدتها.

تلجلجت قليلًا قبل أن تجيبها أنها بصدد إعداد فيلا جديدة، وقد أتت لتختار بعض التحف لهذا الغرض، لكن حين انبهرت بجمال المكان والذوق الرائع في تنسيقه، فكرت في استشارة صاحبته في بعض الأمور الخاصة بديكور فيلاتها، قبل شراء ما يلزمها من القطع الفنية، طبعًا إذا لم يكن لديها مانع.

اتسعت ابتسامة مضيفتها لتجيبها أنها يسرها جدًا ذلك، فهي في الأساس مهندسة ديكور، وهي من قامت بعمل كل ديكورات المكان، هذه المعلومة التي كانت تعرفها الضيفة مسبقًا، ورمت جملتها هذه متمنية أن تلتقط مضيفتها الطعم وقد حدث.

تكررت بينهما اللقاءات وتوطدت صداقتهما، حتى كادت تنسى الهدف الأساسي من مغامرتها تلك. فصديقتها الجديدة وديعة رقيقة فياضة المشاعر ومحبة بلا حدود أو محاذير، مما سهل عليها مهمة الاقتراب منها، واختراق عالمها الخاص، لكن ما لم يكن في حسابها، أن يُخترقَ قلبها هي من تلك التي تجيد الابتسام دائمًا، والاستماع باهتمامٍ حقيقي في هدوءٍ، والتفاعل مع حالة رفيقتها حزنًا وفرحًا، لكن يبقى نصل السكين الذي ينغرز بصدرها كلما رأتها، يذكرها أن هذه السيدة بالذات من المستحيل أن تكون صديقتها.

في إحدى جلساتهما، التي أصبحت معتادة، تجرأت وسألتها إذا كانت متزوجة، رغم أنه من الواضح خلو يدها من خاتم الزواج، ومعرفتها المسبقة بالإجابة. ضحكت رفيقتها ضحكة رقيقة أخذة السؤال ببساطة كعادتها، مجيبة " أنت جيبالى عريس ولا إيه؟ لا يا ستى مش متجوزة لكني مرتبطة." فأجابتها بخبث "مخطوبة يعني أو على وشك؟".

ظهرت الجدية على ملامحها وربما قليل من الحزن، لكنها أجابت بهمس "بعذب نفسي". ارتسمت علامات الاستفهام المصطنعة على وجه المتربصة بها، لكنها أجادت تمثيلها وهي تربت على ظهر يد صديقتها، متسائلة "يعنى إيه؟"، فتجيبها "حب محكوم عليه بالموت، فهو زوج لزوجة جميلة، مثقفة، يحبها ويرى أنها زوجة وأم ممتازة".

رغبة شديدة في الصراخ اجتاحتها كالإعصار، تتزايد وتيرتها مع كل كلمة تخرج من فم رفيقتها، لكنها استجمعت كل قوتها لتسيطر عليها وتبقى هادئة متفهمة، حريصة على تلك النظرة المتعاطفة، وتقول في وداعة "طيب إيه موقفه منك بالظبط في الحالة دي؟" لتأتيها الإجابة من بين شفتين تحملان ابتسامة مكسورة "عارفه إنه حب احتياج، وللاحتياج أشكال كتيرة، منها أن يكون حر فيما يفعل أو يقول بلا حسابات، أو حتى همجي فيما يرغب. أن أكون له الصديقة والأم والأخت والإبنة، أن أكون له كل الناس وألعب مختلف الأدوار في حياته. أن أشاركه اهتماماته، مهما كانت من وجهة نظري تافهة أو مملة أو حتى مجنونة، فشعوره بالحذر المفروض عليه بكل لفتة أو كلمة معها، والشعور بالوحدة إلى جوارها قاتل. الزوجة التي تعتقد أنها امتلكت زوجها بورقة تحمل اسميهما تدمر حياتها، وتدفع زوجها لحافة الهاوية مهما كان مبلغ الحب قبل الزواج. تمضي الحياة هادئة وسعيدة في مظهرها الخارجي، وتبقى نار الاحتياج تحت الرماد تلتهم الروح إلى أن تموت. لكن بمنتهى الأمانة أتمنى أن تفيقَ زوجتُه قبل فوات الأوان، لأجله ولأجلي قبل أن يكون لأجلها، فهي الوحيدة التي تستطيع إنقاذ ثلاثتنا من ذلك المصير المجهول، والمرعب كلما مر بخيالي، فأنا ينطبق على قول أنطون تشيكوف، كما جاء على لسان إحدى بطلاته، "ما أشبهه بحجر ثقيل معلق في رقبتي، أراني أهوي معه إلى الأعماق، ومع ذلك فإني أحب هذا الحجر، ولا أستطيع الحياة بدونه" .   

أطرقت رأسها المزهو بجمالها وعراقة أصلها، وخفضت نظراتها حتى لا تفضحها، فالرسالة كانت قوية ومباشرة على غير توقعها، زلزلت غرورها وهدمت أصنامَ ثقتها في تفوقها المطلق في كل شيء على محدثتها وغريمتها، التي ألقت بالكرة في ملعبها دون أن تعرف حقيقة هويتها، فهل تفيق وتحل ذلك الحجر المعلق برقاب ثلاثتهم ؟!