د.ماجد عزت إسرائيل

الجذور التاريخية لعيد الغطاس المجيد
  ومن الجدير بالذكر أن مصر من أوائل الدول في بلاد الشرق تحتفل بطقوس الغطاس كعيد مستقل عن عيد الميلاد في أوائل القرن الثالث الميلادي، ربما في عهد البابا ديمتريوس الأول البطريرك رقم (12) (188-230م). ويكون  هذا العيد في الحادي عشر من شهر طوبة، وهو ذكرى تعميد (التغطيس في الماء) السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان  في مياه نهر الأردن،ويوافق يوم 19 يناير من كل عام. وحسناً سمت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هذا العيد بالغطاس لأنها بذلك تذكر الشعب فيه أن السيد المسيح تعمد بالتغطيس. كما ورد بالكتاب المقدس قائلاً:” “فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ،” (مت 3: 16). وأيضًا "وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلًا: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ." (يو 1: 32).
 
  وأيضًا تذكر المؤمنين في العصر الرسولي بتعميد فيلبس الخصى الحبشى بالتغطس حيث ورد بالكتاب المقدس قائلاً:” “وَلَمَّا صَعِدَا مِنَ الْمَاءِ، خَطِفَ رُوحُ الرَّبِّ فِيلُبُّسَ، فَلَمْ يُبْصِرْهُ الْخَصِيُّ أَيْضًا، وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحًا.” (أع 8: 39). كذلك كان العماد يتم في مكان عرف قديماً بجرن المعمودية، وهذا أكبر دليل على أن العماد كان يتم بالغطاس. كما أن من ملحقات الكنائس الكاملة وجود جرن للمعمودية. ولذلك عندما يتم شراء كنيسة في بلاد المهجر ولا يوجد بها جرن المعمدية يتم تشيده بداخلها أو ملحقا بها. ويحتفظ دير السريان العامر بأقدم مخطوط في العالم عن طقس عيد الغطاس(العماد)،وقد قام المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك رقم (117) (1971-2012م) بنسخ هذا المخطوط عندما كان راهباً وأميناً لمكتبة الدير-وكاتب هذه السطور شاهد هذا المخطوط القيم- وعندما نتأمل في عماد السيد المسيح على يد القديس يوحنا المعمدان وهو غير محتاج إليها إنما ليكمل كل بر، ليكون بلا لوم أمام الناس،ولكى ينوب عنا يسوع وهو غير محتاج. وهنا يضع أمامنا مبدأ الطاعة والإلتزام والتواضع دون أن نسأل،هذه هي المعاني الحقيقية التى يجب أن نتذكر بها عيد الغطاس.
 
القديس يوحنا المعمدان
 ولا يغيب عنا في عيد الغطاس شخصية القديس يوحنا المعمدان مُهيئ طريق السيد المسيح. فقد تنبأ عنه إشعيا حيث ذكر قائلاً: “صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: “أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا.” (إش 40: 3). فيوحنا هو ابن زكريا الشيخ وزوجته أليصابات(لو1: 5- 25 و57-85) وكلاهما كانوا يسكنان اليهودية – ربما يوطة قرب حبرون- ومن نسل هارون ومن أصول وعشيرة كهنوتية، وكانا محرومين من بركة النسل ومن المستحيل الأنجاب لتقدمهما في السن. وكانت صلاتهما الحارة إلى الله أن ينعم عليهما بولد. وقد استجاب الله لهما وبشر ملاك الرب أباه زكريا بميلاده قائلاً:” لأنه يكون عظيما أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس” (لو 1:15).
 وهنا لاننسى مشهد إمتلاء القديس يوحنا المعمدان بالروح القدس حيث سجله لنا الكتاب المقدس عندما زارت السيدة العذراء أليصابات حيث ورد بالكتاب المقدس قائلاً” “فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ:«مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. 45فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ”. (لوقا 1، 39 – 45). ويستدل من (لوقا1: 26) أن ولادة المعمدان كانت قبل ولادة المسيح بستة أشهر وربما كانت في عام (5 ق.م) في هيرودس الأول 73 ق.م- 4 م).
 
خدمة القديس يوحنا المعمدان واستشهاده
 على أية حال، ذكر عن القديس يوحنا المعمدان أنه بدأ خدمته في نحو الثلاثين وكان ناسكًا زاهدًا، ساعيًا لإخضاع نفسه والسيطرة عليها بالصوم والتذلل، حاذيًا حذو إيليا النبي في ارتداء عباءة من وبر الإبل، شادًا على حقويه منطقة من جلد، ومغتذيًا بطعام المستجدي من جراد وعسل بري، مبكتًا الناس على خطاياهم، وداعيًا إياهم للتوبة، لأن المسيح قادم. ولا شك أن والده الشيخ زكريا قد روى له رسالة الملاك التي تلقاها عن مولده وقوله عنه “يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته” (لو 1: 17). ولعل أعظم ما في حياة المعمدان أنه عمد السيد المسيح له المجد، ومن أجل طاعته ومحبته استحق أن يرى الروح القدس على شكل حمامة،وأن يسمع صوت الأب قائلاً:”هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ.(مت 3: 17). وأيضًا عرف عن القديس يوحنا المعمدان شجاعته وموقفه عندما قال للملك هيرودس أنتيباس  Herodes Antipas : “لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك زوجه لك”، هذا الملك الذي كان متزوجاً بنت الحارث الوالي (العربي) ثم طلقها وتزوج امرأة أخيه فيلبُّس هيروديا وكانت لديها بنت تدعى سالومي.
 
  فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ”. وفي ذات اللحظة كان هيرودس يهاب يوحنا حيث ورد في الكتاب المقدس قائلاً: “لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيرًا، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ.” (مر 6: 20). وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِه عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وُقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُوديَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ. وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّك حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي”.(مر 6 : 21-22). ولم يكن هنا عمر سالومي يزيد عن عشرين عاما،فخرجت إلى أمها هيروديا. “فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: مَاذَا أَطْلُبُ؟ فَقَالَتْ: رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ” (مر 6 : 24). “فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: أُرِيدُ أَنْ تُعْطِينِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ”(مر 6 : 25). “فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّها. فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سـَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا”.(مر 6 : 26-28).
 
 وهكذا قطع رأس أعظم نبي في حفلة رقص. ويُقال إن المعمدان كان سجيناً في قصر هيرودس الكبير الذي بناه في مرتفع ماخيروس، وهذا يحتِّم أن الوليمة كانت هناك. وهنا ندون للتاريخ لحظة الحزن والقلق التى سادت في كل بلاد اليهودية، حيث ذكر حسب التقليد إن تلاميذه دفنوها بجوار قلعة ماخيروس،وبعدها أيضاً ذهبوا حسب التقليد وأخبروا يسوع: “فتقدَّم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه، ثم أتوا وأخبروا يسوع” (مت 12:14). هذا هو يوحنا المعمدان الذي شهد له المسيح:”كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة” (يو 35:5). كما ذكر عنه بالكتاب المقدس قائلاً:” هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ” (مت 11: 7-12).
   
 الخلاصة.. أن كل العظمة التى أحاطت بالقديس يوحنا المعمدان من شعبية كبيرة في كل بلاد اليهودية وغيرها، لم تنسيه ضالته ذاته أمام السيد المسيح حيث قال ليسوع : “أنا محتاج أن آعتمد منك”.ولم يقل له السيد المسيح إنه غير محتاج،بل خاطبه قائلاً:”اسمح الآن…” لكى نكمل كل بر…بالحق لقد فعل كأمه أليصابات حينما قالت للسيدة العذراء فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟. للحديث بقية.. كل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الغطاس المجيد،هذا العيد الذي ….نطلب من الله سلاما لمصرنا الحبيبة، وللعالم أجمع، وسلاما لكنيستنا القبطية في كل بقاع العالم.