بقلم: دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ


فاجأنا رأس مغاغة بعظة "نكراء" يَقْلِب فيها المفاهيم اللاهوتية والروحية رأساً على عقب فى فهمٍ مغلوطٍ معادٍ لكلمات يسوع، ومن حيث هو يتعين أن يكون "صالحاً للتعليم" (1 تيموثاوس 3: 2)، بحسب الخصائص اللازمة لتكوين الإكليروس، راح يدمر كل تعليم صحيح لتكوين الناس، وسلامة بنيتهم الروحية، وصواب حياتهم المعاشة..

لكن الإشكال فى جوهره لم يكن يلتبس بكلام الرأس ذاته وشرحه المغلوط بقدر ما التبس بالتعليم الأرثوذكسى السائد كله..

ولعل العهدة عندئذ لا تعود للرأس باعتبار عدم فهم كلمات السيد.. بل للتعليم السائد الذى تربى هو فى ظله، وصار مسئولاً عن تسليمه برمته للأجيال التالية..

قال كأنه يُعَلِّم الجُهَّال، بكبرياء مصدر المعرفة الثمين الذى يتعين أن يتلقى الجميع قوله: "المرأة الطامث نجسة لا يمكنها التقدم للتناول المقدس بحكم شريعة العهد اليهودى القديم قبل مجيئ السيد المسيح، وهو الحكم القائم حتى يومنا هذا وإلى آخر الدهور، لأن السيد المسيح قال: " لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ . مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ" (مت 5 : 17)، والذى معناه - بحسب فهمه - أن كل ما فى الشريعة اليهودية سارى إلى أبد الدهر، لأن المسيح - بحسب قول نيافته - لم يمسه البتة.. بل أكمل عليه؛ إذن نحن نخضع لكل شرائع وطقوس العهد القديم التى منحت الكهنة والفريسيين حق الحكم على الناس، والتحكم فيهم، ومنحهم الحياة أو الموت، بسلطان إلهى كامل".  

فإذا برأس مغاغة يأخذنا إلى معنى بعيد كل البعد عما قصده يسوع، ظاهره طاعة المسيح الذى قال بذلك - ومن ذا الذى يستطيع أن يخالف أحكام اللـه - وباطنه توكيد سلطان غاشم تتم السيطرة بمقتضاه على حياة الناس وأقدارهم، ويمسك فيه رجل الدين – على أى مستوى – برقاب الناس ومصائرهم على نحو ناموسى طقسى تَهَوُّدِى جائر؛ يحجزهم فى قفص شرائع الذبائح والدم، وأحكام القتل والإعدام ، وتحكمات الذلة والعبودية، التى يُخْضِعُوُن فيها الناس لهم، فَيُقَبِّلُون نعل حذائهم، ويستغفرونهم على خطاياهم، كأنهم – كما يزعمون كذباً وإفكاً وبهتاناً – نواب اللـه على الأرض.  

يستندون فى تَهَوُّدِهِم ذلك كله على تفسير شاذ مغلوط لكلمات يسوع الخالدة: " مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"..

لكن تفسيرهم التَّهَوُّدِى الشاذ المغلوط ذلك يشاركهم فيه – للأسف – قامات عقلية سامقة، كبعض الأساتذة الجامعيين، والكثيرين من أفراد الشعب المسكين المُغّيَّب، الذين يظنون أن ما يُصْدِرُهُ رجال الدين من تعليم – مهما كان مشوشاً ومغرضاً – هو الصواب عينه؛ دون إعمال لنعمة العقل التى وهبنا اللـه كى نفكر بها التفسير الصحيح، ودون الرجوع للكتاب المقدس لربط آياته كلها معاً، لفهم مقاصد اللـه فهمها الصريح!!

فماذا قصد يسوع حقاً بقوله الخالد: "مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ" (مت 5 : 17).  

لقد جاء يسوع لا لينقض الناموس بل ليكمله، ليعطى للناموس القديم معنى جديداً من روحه وفدائه، ويتممه بالكمال، ويغلقه إلى الأبد، مفتتحاً عهداً جديداً للمؤمنين به.. عهداً جديداً بناموس جديد منطلقاً من ذاته ومن كماله الذى أكمل به شريعة العهد القديم، فلم يَعُدْ ولاء المؤمنين بعد للناموس الذى أكمله، بل للناموس الذى أعطاه.. الذى أعطاه بالفداء والحب!!

فى هذا الناموس عينه تخلد الوصايا العشر وحدها متجاوزة القديم والجديد معاً، لأنها مرتبطة أساساً باللـه الأبدى الأزلى.. الذى هو فوق الزمان وفوق الشريعة..

بينما تختفى إلى الأبد كل التفاصيل الغليظة الثقيلة للشريعة اليهودية، التى تعقبت الطامث، وهددت الحياة، وغرقت فى دم الذبائح، والتصقت بكهنوت متجبر لَعَنَهُ المسيح عندما ضل سبيله بعذاب الناس وشقاء حياتهم، وهو ما يريدون الآن الإبقاء عليه لأجل سلطانهم الأثيم.

فإذا سأل سائل: وما هو الناموس؟
نجيب: بأن للناموس معان أربعة:

أولها:     للدلالة على الوصايا العشر
وهذه – كما أسلفنا – فوق الزمان وفوق الشريعة.. لكل زمان ومكان.. ولكل طقس وكنيسة..  

ثانيها:     للدلالة على أسفار الاشتراع وتثنية الاشتراع.. فهى لدى اليهود تلك التى تحتوى على الناموس.. ترسم لهم طريق الذبائح واستحقاقاته الدموية.. وتظهر لهم أين النجاسة من الطهارة، والأمانة من الغش، والعقاب الصارم حتى الموت على أقل الهفوات كما أعظمها، بغرض الحفاظ على الصحة أو النظام العام، وتقليص انعدام الأمان والأمانة..

وهذه مفصلة تفصيلاً مروعاً.. غليظة غلظة شنيعة.. قاسية قساوة الموت.. تضع فى أيدى الكهنة سلطاناً متضخماً مفزعاً يقبضون به على أرواح الناس..

وهذه هى التى يريد أن يحاكيها الإكليروس الأرثوذكسى، ليستعبدوا الناس استعباداً نهائياً، ضد إرادة اللـه للعهد الجديد..

هذه هى التى يكافح الإكليروس الأرثوذكسى كل يوم مكافحة هائلة ليسوقوا الناس بها كالأنعام، فارضين إياها على العباد بكل مقاليدها الغابرة، وكل يهوديتها السافرة، وكل ظلامها الماحق، مفترين على كهنوت يسوع المالكى صادقى الذى أُبطل إلى غير رجعة طقس الدم الرهيب، وأحكام العبودية التى يسعون لنشرها بين الناس.  

ثالثها:     للدلالة "بالناموس والأنبياء" على العهد القديم كله..
رابعها:     للدلالة على "ناموس" الكهنة والكتبة والفريسيين، الذى نسجوه بالشروحات، وشروحات الشروحات، والإيضاحات، وإيضاحات الإيضاحات، من خبث ضميرهم ومكرهم وسوء طويتهم فألفوا آلاف الأحكام من كل حكم بسيط ومباشر آتى به الاشتراع الأول والثانى، وأوهموا الناس بها لتقييد حياتهم وتدميرهم والقبض عليهم بيد من حديد.. بسلطان شيطانى متغول كذوب.. وهذا هو الناموس الذى لعنه وأدانه يسوع، وصلبوه لأجل أن حطمه وكسره كسراً مبيناً..

وهذا الناموس أيضاً يحاول الإكليروس الأرثوذكسى أن يحاكيه للأسف في آلاف التفصيلات الضيقة للتحكم في الناس والسيطرة عليهم..

فما هو الناموس الذى لم ينقضه يسوع بل أتى ليكمله؟

إنه الناموس الذى ارتبط بالاشتراع وتثنية الاشتراع..

الناموس الذى رسم طريق الخلاص الوقتى بواسطة خمس ذبائح متوازية تحمل جميعها الرمز للخلاص الذى تممه المرموز إليه.. يسوع.. الخلاص الذى قدمه بذبيحة ذاته على الصليب، فأكمل الذبائح كلها وأغلقها بذبيحة نفسه..
وأكمل الأحكام الناموسية كلها التي ارتبطت بالذبائح، وأغلقها بعمله الخلاصى ذاته.. كل الأحكام دون استثناء أغلقها، سواء تلك التي انتقصت حقوق البشر وأهليتهم، كنجاسة الطامس لأجل الصحة العامة وقت انعدمت فيه أسباب الصحة، أو تلك التي انتهت رسالتها بانتهاء العهد القديم.. عهد ما قبل النعمة بالمسيح.. وكان إغلاقها كلها ضرورياً ولازماً كى يفتح عهداً جديداً بشريعة الحب، وديمومة البُرء الأفخارستى، والثبات فيه إلى أبد الآبدين.
... ...

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"...
فقصد أن يمنحنا المعنى الحقيقى للناموس، وليس أن يحفظ الإكليروس العهد اليهودى برمته.. فوراء الناموس حقيقة جلية لم يدركها الكهنة والكتبة والفريسيون حق إدراكها، جوهرها أن واجب الإنسان هو السعي لمعرفة إرادة اللـه.. فمتى عرفها يكرس حياته لطاعتها.. والوصايا العشر، التى هي أساس كل الناموس، لا تُعَبِّر في الواقع منذ دهريتها الأولى سوى عن توقير اللـه واسم اللـه وإرادة اللـه، واحترام الحياة والبشر، واحترام الإنسان لذاته كى لا تتسلط عليه إرادة الشر والأشرار.
... ...

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"...
جاء ليكشف لنا عملياً كيف تكون اتجاهاتنا نحو اللـه ونحو الآخرين.. وكيف نقدم للـه التوقير الواجب، وللبشر الاحترام الحق..

وأظهر لنا كالنور والضياء أن توقير اللـه واحترام البشر ليس البَتَّة بطاعة مجموعة هائلة من الأحكام الصغيرة المفتتة التي تخنق روح الإنسان وتعتقله وتشل حياته وحيويته، التي يزعمون في غلظة قلوبهم وجهلهم وعماء عقولهم أنها الناموس الذى بعثه وأعطاه.. وإنما توقير اللـه واحترام البشر هو بأن أكمل هو ذاته طريقه "بطلب الرحمة لا الذبيحة".. و"تكريس الحب لا الطقسانية".. فلم ينقض ما بعثه أولاً، بل أكمله بذاته، وأغلقه بذاته، وأفسح المجال بعده بذاته أيضاً لعهد الرحمة والحب الجديد.. وعهد الرحمة والحب الجديد هذا لا يكون بالنواهى العقيمة الظالمة التي تتحطم عليها براءة الناس وحريتهم، بل بالاستجابة من ينابيع الحب التي تتشكل حياتهم وفقاً لمقتضياتها..
... ...

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"...
جاء ليؤكد أن الحياة ليست مناقضة بين الماضى والحاضر، بل إن الحاضر هو وليد الماضى، وإذا تركنا أنفسنا لنختصم الحاضر بالماضى فسنفقد مستقبل المصالحة والفداء..

فلقد أتى ليصادق على الماضى ويكمله ويتممه لأجل المستقبل، وإذ أكمله وأتممه وأغلقه أعلن بما لا يدع مجالاً للشك أن الناموس كان أمراً حتمياً سابقاً ليأتينا هو ذاته لاحقاً بإنجيل العهد الجديد..

فلابد من الناموس ليأتى الإنجيل..

لابد من الناموس ليأتى الإنجيل.. ولابد ألا يَنْقُضْ الناموس ليكتمل به هو ذاته، يتواصل فينا بالإنجيل، والإنجيل الموصول فينا هو للعهد الجديد..     

وهو هنا يسجل بأنه في الحاضر قد بنى عهده الجديد على الاعتراف بالماضى.. لأن هذا الماضى ببساطة شديدة هو الذى أعلن عن مجيئه، وانتظره عبر الدهور بلهفة وأمل.. فلما جاء في ملء الزمان.. كان مجيئه هو ذاته التتميم الكامل للناموس الذى مضى، والإعلان الكامل أيضاً للعهد الذى أطلقه جديداً في العالم لمستقبل الإيمان والحياة المقدسة في المسيح.. لا الحياة المكبلة في الناموس.. الناموس الذى مضى وأغلقه هو ذاته بالتمام والكمال.
... ...

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"...
نعم.. أقَرَّ يسوع الناموس وأكمله.. أكمله في ذاته وبذاته، فوضع أمام الناس محبة اللـه وليس ناموس اللـه، وطالبهم بأن يتجاوبوا مع هذه المحبة عينها، خاطفاً أبصارهم إلى أن هذا التجاوب يتطلب منهم أكثر جداً مما يتطلبه الناموس، إذ هو يتطلب الحياة كلها.. فإذا كانت غاية اليهودى هي إرضاء الناموس والطقوس – كما يريد الإكليروس أن يسوقوا الشعب المسيحى – فالناموس والطقوس محدودة بحدود النواهى والفروض، التي قد يعتليها - ويقهر الناس بها - رجال دين اِلتَوَت ضمائرهم، بينما غاية المسيحى لن تكون أقل من عرفانه للمحبة التي مَطَالِيِبُهَا بغير حدود في الزمان والأبدية.
... ...

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"...
فصاغها القداس الغريغورى: "أكملت ناموسك عنى".. قاصداً: "أنت يا سيدى قد أخذت جسد بشريتى وأكملت الناموس الذى عجزت أنا أن أتممه بذاتى"... أخذت جسدى "وأكملت ناموسك عنى"، وأتممته إتماماً نهائياً، وأغلقت كل مَطَالِيبَهُ القديمة!!

فقوة تصريح المسيح بأنه "لم يأت لينقض الناموس أو الأنبياء بل لِيُكَمِّل" لا ندركها حق قدرها إلا أن نفهم أن تكميل الناموس والأنبياء يعنى أمراً واحداً إلهياً هو خلاص الإنسان من الخطية والموت، وهو الخلاص الذى ظل الناموس يدور حوله دون أن يجد مخرجاً لتكميله وإتمامه، فأكمله وأتَّمة يسوع..

فالناموس.. ووصايا الناموس.. وطقوس الناموس.. التي كانت تتطلب إتقان العبادة الحرفية، وإنفاذ التطهيرات الشكلية، بمنتهى الدقة والالتزام الطقسانى، بكل دقائقه وتفاصيله الثقيلة الغليظة، كانت تستهدف في جوهرها عبادة حقيقية بالروح والحق، لكن الناموس عجز أن يوفيها حقها، فجاء المسيح وأغلق الناموس لكى بصليبه وموته وقيامته يتم تكميل ما استحال على الناموس تكميله بآلاف الوصايا الصغيرة الدقيقة الثقيلة الغليظة، وبذبائح دموية متكررة تكراراً لا ينتهى أبداً.. وهو بذلك لم يلغ الناموس بل عمل ما عَسُرَ على الناموس عمله، دون أن يخرج عن الهدف النهائي للناموس، وهو عبادة اللـه بالحق.

وهكذا توقف ناموس الوصايا التي بالناموس نهائياً، ليس عن قصور فيها، بل لأجل قصور البشرية الذى احتاج القوة والنعمة الآتية له من فوق رأساً من رب الناموس كله.. اللـه الظاهر في الجسد.. الذى أكمل الناموس في ذاته وبذاته ليعطى العالم عهده الجديد.. وإذ أعطى العهد الجديد أبطل العهد القديم بكل تَهَوُّدَاتِه القديمة إبطالاً نهائياً..

فلا يعودن أحد بالناس بعد إلى أي شريعة يهودية ليقول بأن نير الشريعة لا يزال على رقاب المؤمنين!! 
... ...

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"...
جاءت بها الترجمة المبسطة للعهد الجديد، التي اعتبرت إلى حدٍ ما ترجمة تفسيرية: "لا تَظُنُّوا أنِّي جِئْتُ لِكَي أُلغِيَ شَرِيعَةَ مُوسَى أوْ تَعليمَ الأنبِياءِ. لَمْ آتِ لِكَي أُلغِيَها، بَلْ لِأُعطِيَها مَعناها الكامِلَ"..

فأن يعطيها المسيح معناها الكامل هو أن حققها وتمم مقاصدها، وليس أن مَدَّ أثرها في الناس والزمان، أعطاها معناها الكامل وأغلقها لأنه إذ حققها وأتَّمها أعطى عهداً جديداً في الناس والزمان.. جديداً في كل شيء.. لأنه " إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا" (2 كو : 17)..

فإذا إدَّعى مُدَّعٍ أن ما قاله السيد المسيح يعنى الالتزام بالناموس اليهودى، والسير على خطاه وهديه، فإنه ينسف عمل المسيح الخلاصى نسفاً، ويعاند العهد الجديد الذى أطلقه للعالم، ويعلم تعليماً شاذاً مغلوطاً، ضد الكتاب المقدس وضد المسيح، وفى أولئك وهؤلاء يقول الوحى الإلهى في الرسالة إلى غلاطية: "وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا ، اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ" (غلاطية 2: 4 و 5)..

فارق كبير بين أن نفهم كلمات يسوع انطلاقاً من مفاهيم ظلامية، وبين أن نفهمها انطلاقاً من الحق الكتابى.. الظلامية بضمير خبيث تلوى عنق الكلمات لاستعباد الإنسان.. لكن الحق الكتابى بضمير صالح يكرس الكلمات للحرية.. حرية مجد أولاد اللـه..

فهل معنى أن المسيح حررنا من الناموس أن نفعل ما نشاء؟
حـاشـا!!!

فمسئوليات المؤمنين وواجباتهم لم تنته بانتهاء سيطرة الناموس القديم، بل تجددت بالتزامات العهد الجديد.. عهد النعمة التي بالفداء بالمسيح يسوع..

هنا يطلب المسيح أن يزيد بِرّ المسيحيين على بِرّ الكتبة والفريسيين.. يزيد على الإرضاء الحَرْفِى الضيق لمطالب شريعية هائلة متفتتة لا غرض لها سوى السلوك بالشكلية والمظهرية والريائية والنفاقية المقيتة، كالتى يتفنن فيها الإكليروس الأرضى الطاعن للمسيح فى جنبه النازف، فتفقد جوهر الارتباط باللـه، وتسقط في هوة الارتباط الجسدانى، بشيطان طقسى لا وظيفة له سوى عبودية البشر لسلطان إكليروسى شيطانى غاشم..

إن غاية النعمة التي للعهد الجديد الذى أعطاه يسوع المسيح هي المحبة، وهى ترسم طريقاً لا نهائياً للفضيلة السالكة بالكمال إلى المسيح رأساً، والتي لا يمكن إتمامها نظرياً، لأنها تصعد في تَرَقٍ دائم لا ينتهى.. لأن كل ما يفعله الإنسان تحت عهد المسيح الجديد يُحْسَبُ بسيطاً تجاه محبته اللامحدودة.. وتجاه المحبة التي بلا حدود.

إن ما فعله المسيح هو أنه أكمل الناموس القديم وأغلقه، ليضع أمام الناس محبة اللـه وليس ناموس اللـه، حتى لقد أعلن أغسطينوس في محفل عهد المسيح الجديد: "إن الحياة المسيحية توجزها عبارة واحدة ليس غير: أحبب اللـه وافعل ما شئت"، وعندها نتبين حقاً كيف أحبنا اللـه، وأى عهد جديد يتجاوب مع محبة اللـه.. لا مع شريعة عهد قديم أتمه اللـه.. ليطرح محله في حياة الناس والتاريخ الإنسانى القادم كله شريعة الحب.

فكيف يأتى إكليروس مهما كانت رتبته - فى رحاب العهد الجديد - ليقول بأن المرأة لا تزال بنجاسة العهد القديم، وأن الطقوس الكهنوتية الفريسية الغليظة لا تزال تمسك برقاب الناس؛ لا لإدراك أي بِرٍّ سماوى البتة، بل لإدراك الخضوع للسلطان الغاشم الكذوب!!

وكيف المسيح قد جاء وحرر المرأة من عبودية الشريعة وقال لها: " وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا " (يو 8 : 11).. وأَبْطَلَ رجمها؛ ثم يأتي جاهل لم يتعلم القراءة بعد ليقول: "مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ" تعنى أنه حافظ على عبوديتها ونجاستها؛ ويفسر "بَلْ لأُكَمِّلَ".. أنه يكمل على نفس المنوال، ويحفظ الشريعة ذاتها للأبد للناس؟

هذا من الإخوة الكذبة كما قال الوحى في غلاطية.. لم يقرأ الحروف والكلمات، فلا يمكنه أن يفرض كذبه أبداً على جموع المؤمنين لمجرد أنه يتقلد العِمَة والجلباب الأسود!!!

أخيراً وليس آخراً.. فالقضية كلها تشير - بأسى بالغ الآن - إلى بؤس التعليم الدينى والكتابى الراهن في القبطية الأرثوذكسية؛ وتدق ناقوس الخطر للمرة الألف: "إن التعليم الصحيح مسئولية خطيرة لم يحملها أحدٌ بعد"!!