إعداد/ ماجد كامل 

جاء عصر البابا يوحنا بولس الثاني في فترة مضطربة مليئة بالأحداث السياسية الهامة ، ومن هنا حرص قداسته علي توجيه خمس  رسائل إجتماعية  ، جا ء أولها بتاريخ 15 مارس 1979 بعنوان " فادي الإنسان " وفيها ركز قداسته علي العلاقة بين كرامة الإنسان وسر التجسد الإلهي . ففي جزء منها بعنوان " الإنسان المفتدي ووضعه في العالم المعاصر "  وفيها يؤكد بما أن السيد المسيح قد اتحد بالتجسد مع كل إنسان ، فالكنيسة  تري أن من أولي واجباته أن تسعي دائما إلي تحقيق هذه الوحدة وإلي تجديدها .
 
ليؤمن كل إنسان بالمسيح ، وطريق الكنيسىة الأساسي هو يسوع المسيح  ، وهو طريقنا إلي كل إنسان ، ولقد  أكد المجمع الفاتيكان الثاني في مواضع مختلفة من وثائقه هذه العناية الخاصة التي تبذلها الكنيسة لكي تزداد الحياة ملائمة مع  ما للأنسان من كرامة فائقة من جميع الوجوه .  لكي تصبح الحياة  أكثر إنسانية ، وهذا هو هدف المسيح نفسه 
 
فالمسيح من خلال سر الفداء ، أنضم إلي كل إنسان في كل زمان ، فكل إنسان يأتي  إلي الحياة ، بعد أن حبلت به أمه ينعم برعاية الكنيسة بفضل سر الفداء ، وتتناول هذه الرعاية الإنسان بكامله ، وتتركز بطريقة خاصة عليه . ومن هنا لا يجوز للكنيسة  أن تتخلي عن الإنسان الذي يرتبط  مصيره بالمسيح ارتباطا لا ينفصم ، ونعني بالإنسان هنا أي إنسان وجد علي سطح الكرة الأرضية .
 
ويشير قداسة البابا إلي  أن التطور التقني الذي يتميز به عصرنا يتطلب تقدما موازيا في حقل الأخلاق والحياة الأدبية .
 
ولكن هذا التقدم يبدو دائما و يا للأسف متخلفا عن ذاك .
 
والسؤال الذي يجب طرحه هو التالي : " هل يجعل التقدم الذي  أحرزه الإنسان ويدافع عنه ، هل يجعل حياة الإنسان علي الأرض  أكثر إنسانية من جميع الوجوه  ؟ هل اصبح الإنسان في إطار هذا  التقدم أحسن مما كان ؟ أي هل أصبح أنضج روحيا ، وأكثر وعيا لكرامته الإنسانية وتلبية لداعي الضمير وأحن علي الغير ؟ ولا سيما الذين يعانون من حرمان ومرض ؟ وهل هو اكثر استعدادا للعطاء ولمد يد المساعدة للجميع ؟ هذا هو السؤال الذي يجب علي المسيحين أن يطرحوه ( كيرلس سليم بسترس :- مدخل إلي اللاهوت الأدبي ، تعليم الكنيسة الإجتماعي ، الجزء الثاني  ، منشورات المكتبة البولسية ،  صفحتي 222- 225 ) 
 
كما  تطرق قداسته إلي الأخطار التي تهدد حياة الإنسان اليوم ، ومنها ما أسماه بحضارة الاستهلاك القائمة علي توفر الخيرات التي تحتاجها المجتمعات الغنية ، بينما  تظل المجتمعات التي تحت الفقر تعاني من الجوع ، فكل يوم يموت كل من يعاني من الجوع والحرمان ، ويتهم قداسته البني المالية والتجارية  بالعجز في القضاء علي الظلم الموروث من العهود السابقة ، وتزداد حدة الشعور بالأزمة  بوجود طبقات  معينة تنعم  بالرفاهية  إلي درجة يصبح غناها الفاحش مثير لاضطرابات مختلفة ، وهذا  أمر يجب أن يدفع بمبدأ " التضامن " بمعناه الواسع ، وإعداد  قوانين  تتعلق بمراقبة الخيرات وتوزيعها توزيعا  عادلا يلبي الحاجات المباشرة لتتمكن الشعوب المتخلفة اقتصاديا لا أن تؤمن حاجاتها الضرورية فحسب ، بل أن تتطور شيئا فشيئا تطورا أكيدا  .
 
كما تعرض البابا في رسالته إلي ضرورة التغلب علي النوازع التي تميل بالإنسان إلي القتال والسيطرة ، وعلي الكنيسة واجب الدعوة إلي الكف عن القتل والدمار ، وإلي إحترام كرامة كل إنسان وحريته ( كيرلس سليم بسترس :- نفس المرجع السابق ،  صفحتي 225 و226 ) . 
 
كما تعرض قداسته للميثاق العالمي لحقوق الإنسان ،  ويطالب الكنيسة بتأمين هذه الحقوق ، ويكرر العبارة  التي وردت في مجمع الفاتيكان الثاني " إن السلام يقوم  علي احترام حقوق الإنسان التي لا تمس ، فالسلام صنع العدالة " . 
 
ولقد شدد البابا في رسالته علي ضرورة إحترام للحرية الدينية وحرية الضمير ، فالحد من الحرية الدينية وخرقها  يتنافيان مع كرامة الإنسان وحقوقه الوضعية .
 
وينهي قداسة البابا الرسالة بقوله " لسنا نطالب بأي إمتياز بل باحترام حق أولي بسيط ، وممارسة الحق إنما هو خير برهان علي تقدم الإنسان في كل مجتمع  وفي كل نظام وأسلوب حكم ومحيط . ( كيرلس سليم بسترس :- صفحة 228 ) . 
 
ويؤكد البابا في نفس الرسالة أن الكنيسة مسئولة اجتماعيا ، ويجب علي رجال العلم من مختلف التخصصات في ( الطبيعيات – الآداب – الأطباء – رجال القانون – الفن – التقنيين – رجال التربية والاجتماع - ...الخ )  هؤلاء جميعا لهم دور فعال في خدمة الكنيسة . 
 
ثانيا :- العدالة والرحمة :- 30 نوفمبر 1980 .  
وفيها يؤكد البابا علي  أن رسالة الكنيسة هو  إعلان رحمة الله  فيقول " الكنيسة تحيا حياة حقيقية عندما تعترف بالرحمة وتعلنها علي أنها الصفة الأروع للخالق والفادي  ....... ولقد علمنا  السيد المسيح أن الإنسان لا ينال رحمة الله ويختبرها وحسب ، بل هو أيضا مدعو أن يصنع الرحمة للآخرين ، وعمل الرحمة لا يفيد فقط من ينال الرحمة ، فإن من  يصنع الرحمة يتحد بالمسيح الذي غفر لصالبيه  ......... وبغير هذه الرحمة الرحيمة ، لا يمكن بناء حضارة المحبة التي تحدث عنها البابا بولس السادس ورأي فيها الهدف الذي يجب أن تسعي إليه كل الجهود في الميدان الإجتماعي والثقافي  ، كما في الميدان الاقتصادي والسياسي . فلقد أكد مجمع الفاتيكان الثاني  مرارا ضرورة جعل العالم أكثر إنسانية . وعالم البشر لن يصير أكثر إنسانية إلا إذا أدرجت  المغفرة والتسامح في علاقات الناس بعضهم ببعض ، فإن عالما من دون محبة يصبح عالما يقتصر علي العدالة الباردة والفاقدة الاحترام ،يطالب بموجبها كل واحد بحقوقه بإزاء الآخرين ، وهذا يفسح المجال لتحول المجتمع البشري   إلي نظام تعسفي يقهر فيه الأقوياء الضعفاء ، أو يتحول إلي ساحة حرب دائمة . ( كيرلس سليم بسترس :- نفس  المرجع السابق ،  الصفحات من  244-  246 ) . 
 
و علي الكنيسة أن لا تتخاذل أمام صعوبات رسالتها   مهما تكن مقاومة التاريخ البشري شديدة ،ومهما يكن إنكار الله في العالم قويا . 
 
ثالثا :- العمل البشري :- 14 سبتمبر 1981 . 
وكثير من مواضيع هذه الرسالة  يتناول قضايا إجتماعية متعددة ؛ ومنها أهمية  " العمل البشري "  فهو المفتاح الأساسي لكل المشاكل الإجتماعية .  وما يعطي العمل قيمته أنه يصدر عن الإنسان ، وهو يسهم في تنمية  شخصيته ، ومن هنا توسع البابا في هذه الرسالة في حقوق العمال وواجباتهم ، كما تناول مشكلة الأجور  ، وأهمية أن تكون الأجرة عادلة ، فهي التي تمكنه أن يضمن لأسرته حياة حرة كريمة ، وتدعو الرسالة إلي إعادة تقويم دور الأمومة ، فليس من العدل أن ترغم الزوجة والأم علي العمل المأجور خارج البيت ،  إذا ما تعارض هذا العمل مع الأهداف الرئيسة التي  تلازم رسالة الأمومة  ، أو تكون عائقا دون كمالها ( كيرلس سليم  بسترس :- مرجع سبق ذكره ؛ صفحة 255 ) . 
 
كما تناول قداسته قضية تنظيم العمل ووقته ، وضرورة أن يتناسب العمل مع سن العامل  وظروفه  الصحية ، مع مراعاة الفروق النوعية بين الذكور والأناث ،  فلن تكون تنمية دور المرأة بناءة إذا تمت علي حساب  أنوثتها أو أسرتها . كما  أكد قداسته علي أهمية التعويضات والتأمينات الإجتماعية التي تضمن حياة العامل وصحته ، ولا سيما في حالة المرض الطاريء الذي يتعرض له ، مع مراعاة حقه في الراحة الأسبوعية والأجازة السنوية مع مراعاة الحق في التقاعد وضمان الشيخوخة ، مع مراعاة حق العامل في عمل  لا ينال من صحته الجسدية وكرامته  الإنسانية  . 
 
كما تعرض قداسته لقضية " البطالة " التي وصفها  أنها "آفة اجتماعية " ، فهي من جهة تحرم المجتمع من طاقات معطلة  ، ومن جهة أخري تحرم الإنسان أن  ينمي إنسانيته  من خلال العمل الشريف . فالعمل حق أساسي لكل إنسان ، ولا بد من السعي لكي يتوفر  لكل إنسان بالتخطيط العام علي الصعيدين الوطني والدولي ، ويري قداسته أنه من حق العاطل عن العمل الحصول علي أن يقدم له من التعويضات ما يمكنه من العيش ، انطلاقا من حقه في الحياة وفي مقومات هذه الحياة ( صفحة 257 من نفس المرجع ) . 
 
ومن هنا تأتي أهمية النقابات  العمالية ، التي يري قداسته انها امتداد لاتحادات الحرفيين في القرون الوسطي ، والخبرة التاريخية   أثبتت ان هذه التنظيمات المهنية أضحت الآن  أمرا حيويا لا بد منه في الحياة الإجتماعية لا سيما في الصناعات .   ويؤكد البابا في الرسالة علي النقابات  أنه يجب أن لا تتصف بصفة الأحزاب السياسية ، ولا أن تخضع لقراراتها  ولا تربطها بها علاقات وثيقة ، كما يدعوها  أن توجه اهتمامها إلي الإنسان العامل في مجالات التعليم والتربية والتنمية الإنسانية  " . 
 
وتقر الرسالة حق العامل في الإضراب كوسيلة للوصول إلي حق مشروع في نطاق مشروع وحدود معينة . يحيث يكون الإضراب هو الوسيلة الأخيرة والقصوي ، وأن يكون في إطاره المهني ، بحيث لا يسخر للصراعات السياسية ، فالتطرف في اللجوء الي الإضرابات  يتسبب في شلل الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، مما يتنافي  مع الصالح العام . 
 
ولقد تناول البابا في الرسالة  أيضا ( كرامة العمل الزراعي – حق الإنسان المعاق في العمل – العمل ومشكلة الهجرة ) . 
 
ثم ختم قداسته الرسالة  بأهمية الربط  بين الأخلاق والإيمان في رؤية توحد بين ملكوت الله والعالم الحالي ، فالعمل الإنساني هو مشاركة لله في عملة الخلق  من خلال خدمة أخوتنا البشر – تمجيد الله في عظمة ما أبدع في الكون وما وضع في الإنسان من طاقات . ( لمزيد من الشرح والتفصيل راجع :- كيرلس سليم بسترس ، مرجع سبق ذكره ، الصفحات من  249- 262 ) . 
 
رابعا :- الاهتمام بالشان الإجتماعي :- 30 ديسمبر 1987 .
وفيها يؤكد البابا علي ضرورة الاهتمام بحل مشاكل  الاقتصاد العالمي وأبرزها الهوة الساحقة بين المناطق الغنية والمناطق الفقيرة ، كذلك مشاكل التخلف الثقافي  كالأمية والتمييز العنصري ؛ وقتل روح المبادرة والإبداع في الأفراد ، وكل هذا يولد الشعور باليأس  ، ويخلق نوع من الاغتراب النفسي . كما يندد البابا بآفة أخري هي الإرهاب وعمليات احتجاز الرهائن  . كما أوصي قداسته في الرسالة بضرورة احترام حقوق الإنسان  ، واحترام البيئة والحرص علي عدم تلويثها ،  ويطالب بما أسماه " الحب التفضيلي للفقراء " ويذكر قداسته المسؤولين عن الأمم والمنظمات الدولية بواجبهم أن يضعوا في مخططاتهم البعد الإنساني الصحيح في المنزلة الأولي ، وأن لا ينسوا  أن يولو ظاهرة الفقر المتصاعدة اهتمامهم الأول  ، وأن المبدأ المميز للتعليم المسيحي  السليم أن خيرات هذه الأرض ، هي في الأصل معدة للجميع  ، نعم الحق في الملكية الخاصة حق مقبول و لازم ، لكنه لا يلغي  أهمية هذا المبدأ 
 
خامسا :- الرسالة الأخيرة  السنة المائة ، قراءة معاصرة لرسالة الشئون الحديثة :- 1 مايو     1991 
ولقد صدرت هذه الرسالة بمناسبة مرور مائة سنة علي أول رسالة إجتماعية أصدرها البابا لاون الثالث عشر (1878- 1903 ) بابا الكنيسة الكاثولوكية رقم 255 ، فلقد أصدر قداسته رسالة بعنوان " الشئون الحديثة "  في مايو 1891  ( سوف نكتب عنها بالتفصيل في أقرب فرصة مناسبة إن شاء الله ) . فأراد  البابا يوحنا بولس الثاني إحياء الذكري وإعادة قراءة الرسالة مرة  أخري لاكتشاف ثروة المباديء الأساسية المطروحة فيها . وفي هذه الرسالة يؤكد البابا يوحنا بولس علي   أهمية دور الكنيسة في بناء الحضارة ، فالكنيسة تخدم الإنسان بإعلان الحقيقة في شأن الخليقة التي وكلها الله إلي البشر ليثمروها بعملهم .
 
وتحرص الكنيسة علي نمو المحبة المتفانية للقريب مما يؤدي إلي حلول سلمية للنزاعات الدولية ، وفي مساعدة الكنيسة للفقراء ، أكد قداسته أن المحبة لا تعني مجرد التصدق  مما يفيض عنا ، بل أن نوفر الدعم لشعوب برمتها معزولة ومهمشة ، حتي تلحق تلك الشعوب بركب النمو والتقدم ،  ويختتم قداسته الرسالة برفع آيات الشكر لله الذي جاد علي كنيسته بما تحتاجه من نور وقوة لتواكب الإنسان في مسيرته الأرضية شطر غايته الأبدية . وفي الألف الثالث أيضا ، سوف تظل الكنيسة وفية لعهدها بأن تجعل درب الإنسان هو دربها ، عالمة أنها لا تسير وحدها بل مع المسيح ربها . فهو الذي جعل من درب الإنسان  دربه ، وهو الذي يقوده ، وإن خفي عليه ذلك " (راجع نص الرسالة بالكامل في :- كيرلس سليم بسترس ، نفس المرجع السابق ، الصفحات من 283- 299 ) . 
 
بعض مراجع ومصادر المقالة :- 
1- كيرلس سليم بسترس :- مدخل إلي اللاهوت الأدبي ، الجزء الثاني ، تعليم الكنيسة الاجتماعي ، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم ، رقم 30 ، منشورات المكتبة البولسية ، الطبعة الأولي ، 2001 . 
 
2-    الأب وليم سيدهم اليسوعي :- كلام في الدين والسياسة ، نحو لاهوت تحرير مصري ، تقديم جمال البنا ، دار مصر المحروسة ، الطبعة الأولي ، 2003 ، الصفحات من 157- 188 . 
 
3-خوان داثيو :- معجم الباباوات ، نقله إلي العربية أنطون سعيد خاطر ، دار المشرق ،بيروت ، 2001 ، الصفحات من 380 – 386 .