القمص يوحنا نصيف
    في شرحه لكلمات ربّنا يسوع المسيح، التي جاءت في الأصحاح السادس من إنجيل يوحنّا، يقدّم القدّيس كيرلّس الكبير تعليقًا مُطوَّلاً على الآية: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَد خَتَمَهُ"، وقد عرضتُ في مقالٍ سابق بعض تعليقاته على الجزء الأوّل من الآية، وفي هذا المقال انتقيتُ لحضراتكم بعض الفقرات من تعليقه على عبارة "الآب قد ختمه":

    + يقول أنّ ابن الإنسان سوف يعطيهم الطعام الذي يَقوتُهم إلى حياة أبديّة، ويؤكِّد في التوّ أنّه مختومٌ من الآب. ومختومٌ هُنا إمّا أنّها تُعنِي "ممسوح" (أي الذي يُمسَح ويُختَم)، أو أنّها تُظهِر أنّه كائنٌ بالطبيعة في الآب. تمامًا كأنّه قال.. على الرغم من أنّني أبدو كواحِدٍ منكم.. إلاّ أنّني رسمُ الآب المُماثل له بغير تغيير. لأنّكم سوف ترون أنّه فيّ، وأنا أيضًا فيه بالطبيعة.. رغم أنّني لأجلكم وُلِدتُ إنسانًا من امرأة، بحسب ترتيب التدبير الذي لا يُعَبَّر عنه.

    + رغم أنّ الله الآب يعطي الطعام الروحاني الذي يَحفظ إلى حياة أبديّة، فمن الواضح أنّ الابن أيضًا سوف يُعطيه، حتّى وهو في الجسد، لأنّه صورته المُطابِقة تمامًا، والمُماثِلة.. ليس بحسب قَسَمات الجسد.. بل في مجد إلهي وقوّة مُساوية وسُلطان ملوكي.

    + حين يقول أنّ ابن الإنسان سيُعطِي أمور الله، وأنّه قد خُتِمَ، إذ هو صورة الله الآب ولا يعتريه انقسام.. فإنّه يُعَرِّف نفسه، ويريد أن نُدرِك عنه أنّه هو أيضًا واحد. لأنّ المسيح هو الواحد بالحقّ، الكائن علينا، حاملاً رداءه القرمزي الملوكي، أعني جسده البشري، أي هيكله المُكوَّن من نفس وجسد، لأنّ المسيح هو واحد من كليهما (اللاهوت والناسوت) معًا.

    + تَشهَد الكتب المقدّسة لنا أنّ الابن هو رسم جوهر الله الآب (عب1: 3)، إذ أنّه هو فيه، ومِنه بالطبيعة، حيث هو صورة الآب الذّاتيّة، الذي به يَطبَع الآب صورته في الآخَرين.. فالصورة التي هي الابن هي صورة ذلك الذي وَلَدَهُ.

    + إنّ الكلمة الذي هو من جوهر الآب.. قد ختمه الآب، بل بالحريّ فإنّه بواسطة المسيح تُختَم تلك الأشياء التي تصير مُشابِهة لله، بقدر المُستَطَاع، كما نَفهَم من الكلام الذي يقول: "نور وجهَك قد ارتسم علينا يارب" (مز4: 6 سبعينيّة). لأنّه يقول أنّ وجه الله الآب، هو الابن، الذي هو أيضًا الرسم، لكنّ النور الذي منه هو النعمة التي تُنقَل إلى الخليقة بواسطة الروح القدس، حيث يُعاد تشكيلُنا في الله بالإيمان، فننال به (بالخِتم) كما بعلامة، لنكون على شكل ابنه، الذي هو صورة الآب، حتّى أنّ كياننا الذي صُنِعَ على صورة ومثال الخالق، يُمكِن أن يظلّ محفوظًا فينا بطريقة حسنة. لكِنْ لَمّا كان الابن مُعتَرَفًا به بأنّه وجه الله الآب، فإنّه يكون حَتمًا الختم أيضًا الذي به يَختِم الله.

    + الابن هو في الآب، وبالمِثل يُدرَك على أنّه من الآب، بحسب الصدور الذي يُظهِره بطريقة لا يُعَبَّر عنها من جهة الإشراق؛ لأنّه نور من نور. لهذا فهو في الآب ومن الآب، وبالمِثل أيضًأ فهو غير منقسِم وغير منفصل، وهو في الآب كرسمٍ له، لكنّه كصورة الأصل.. كلاهما معًا في طبيعة واحدة، لكن كُلّا منهما متميّز كقائم في شخصه الذاتيّ، لكنّهما ليسا منفصلَين أبدًا، ولا الواحد منعزل عن الآخَر.. وليس الواحد بأيّ حالٍ أقلّ من الآخَر.

[عن شرح إنجيل يوحنّا للقدّيس كيرلّس السكندري - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد وآخَرين]
القمص يوحنا نصيف