القمص يوحنا نصيف
    عندما قال الرسل للربّ يسوع: "زِد إيمانَنا"، أجابهم: "لو كان لكم إيمان مثل حبّة خَردَل، لكُنتُم تقولون لهذه الجمّيزة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم" (لو17: 5-6). يُقَدِّم القدّيس كيرلّس الكبير تعليقًا لطيفًا على هذه الكلمات، بالقول:

    + إنّ ما يُعطي فرحًا أكيدًا لأنفس القدّيسين، ليس هو امتلاك الخيرات الأرضيّة الزائلة، فهي قابلة للفساد وتُفقَد بسهولة؛ بل إنّ ما يُعطيهم الفرح بالحريّ هو تلك الخيرات التي تجعل مَن ينالونها موقَّرين ومبارَكين، أي هي النِعَم الروحيّة التي هي عطيّة الله.

    + الشيء الذي له قيمة خاصّة بين هذه النِّعَم هو "الإيمان"، وأعنِي به أن يكون لنا ثِقة بالمسيح مخلّصنا كلّنا، والذي يعتَبِره بولس الرسول أنّه أساس كلّ بركاتنا؛ لأنّه قال: "بدون الإيمان لا يُمكِن إرضاؤه" (عب11: 6)، "لأنّه في كلّ هذا شُهِدَ للقُدَماء" (عب11: 2).

    + انظروا الرسُل القدّيسين في اقتدائهم بسلوك قدّيسي العهد القديم، فما الذي يطلبونه من المسيح؟ "زِد إيماننا". هُم لم يطلبوا مجرّد الإيمان، لئلاّ تظنّوا أنّهم بلا إيمان، بل بالحريّ طلبوا من المسيح زيادة إيمانهم، وأن يتقوّوا في الإيمان.

    + الإيمان يتوقّف علينا من ناحية، وعلى هِبة النعمة الإلهيّة من ناحية أخرى، لأنّ بداءته تعتمد علينا، وهكذا أيضًا استمرار الثِقة والإيمان في الله بكلّ قوّتنا؛ أمّا الثَّبات والقوّة اللازمة لهذا (الثبات في الإيمان) فتأتي من النعمة الإلهيّة.. لأنّ القوّة التي تأتي إلينا بالإيمان هي من الله.

    + هذا ما طلب التلاميذ أن ينالوه من المُخَلِّص، مُساهِمين من جهتهم أيضًا بأن يطلبوه؛ وهو مِن جهته قد منحهم إيّاه بعد اكتمال التدبير بحلول الروح القدس عليهم. فقَبْل القيامة كان إيمانهم ضعيفًا جِدًّا لدرجة أنّه كانوا مُعَرِّضين لأنْ يوصَفوا بقلّة الإيمان.. عندما جاء الجنود والخُدّام الأشرار ليقبضوا على يسوع، فإنّ الجميع تركوه وهربوا، وبطرس أيضًا أنكره لأنّه ارتعد أمام جارية.

    + لكن حينما حلّتْ عليهم القوّة التي من الأعالي، في شكل ألسِنة ناريّة، أي النعمة التي بواسِطة الروح القدُس، حينئذ صار التلاميذ بالحقّ شُجعانًا وجسورين وحارّين بالروح، حتّى أنّهم احتقروا الموت، بل وحَسِبوا الأخطار التي كانت تُهَدِّدهم من غير المؤمنين، كلا شيء؛ بل وأيضًا صاروا قادِرين على عَمَل المعجزات.

    + الذي يَثِق في المسيح، لا يتّكِل على قوّته الذّاتيّة، بل بالأحرَى يؤمِن أنّ المسيح يَعمَل كلّ الأشياء بقوّته. إذ نحن نعترِف أنّ إتمام كلّ الأمور الحَسَنة في نفوس البَشَر يأتي منه، ومع ذلك ينبغي على النفوس أن تُعِدَّ ذواتَها لنوال هذه النعمة العظيمة.

    + الله يعمل كلّ الأعمال فقط لأجل خير البشَر وسلامتهم، وهذا أقوله لكي لا ينتظِر أحدٌ من الإيمان المقدّس والقوّة الإلهيّة تغيّرات غير نافِعة للعناصِر مثلاً، أو ينتظِر إزالة الجبال والأشجار. فلو أنّ هذه التغيّرات لم تحدُث، لا يكون ذلك بسبب أنّ الكلمة غير صادقة، بل بسبب أنّ الربّ لا يُريد أن يُفسِح مجالاً لعدم التقوى. وأيضًا لا يُحسَب الإيمان ضعيفًا لو أنّه لم يستَطِع أن يُتَمِّم مثل هذه الأعمال.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (من العظات 113-116) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف