الكاتب : جى دو موباسان
ترجمة : نجيب محفوظ نجيب
          كاتب و باحث و مترجم.


فى بعض الأحيان قد لا تكون الحقيقة محتملة.
كنت أقول قبل يوم، في هذا المكان، إن المدرسة الأدبية بالأمس كانت تستخدم في رواياتها المغامرات أو الحقائق الاستثنائية التى صادفتها في الوجود؛ بينما المدرسة الحالية، لا تهتم سوى بالاحتمال، تؤسس شكلا متوسطا من الأحداث العادية.

إليكم قصة كاملة حُكيت لى، ويبدو أنها حدثت ويبدو أنها قد اخترعها بعض الروائيين المشهورين أو بعض كتاب المسرح و هم فى هذيان.

إنها، على أى حال، ملفتة للنظر ومصممة جيدًا ومثيرة للاهتمام للغاية فى غرابتها.

فى منزل ريفى، نصف مزرعة ونصف قصر، كانت تعيش عائلة لديها ابنة يتودد إليها شابان، الاثنان شقيقان.

كانا ينتميان إلى منزل قديم و طيب، ويعيشان معًا فى منزل مجاور.

الأكبر كان مفضل. والصغير، الذى غمر قلبه حبا صاخب، أصبح كئيبًا، حالمًا، تائهًا. كان يخرج لأيام متتالية أو كان يحبس نفسه فى غرفته ويقرأ أو يتأمل.

كلما كان يتقدم وقت الزواج، كان يصبح أكثر خوفا.

قبل حوالى أسبوع من الموعد المحدد، أصيب الخطيب، الذى كان عائداً فى إحدى الأمسيات من زيارته اليومية للفتاة الشابة، بطلقة رصاصة من مسافة قريبة طرحته فى ركن من الغابة.

قد وجده بعض الفلاحين عند الفجر وأعادوا الجسد إلى مسكنه. غرق شقيقه فى يأس شديد استمر عامين. حتى أنه كان يعتقد أنه سيصبح كاهنًا أو أنه سيقتل نفسه.

في نهاية هذين العامين من اليأس، تزوج خطيبة أخيه.

ومع هذا، لم يتم العثور على القاتل. لا يوجد أثر أكيد. والشىء الوحيد الذى تم الكشف عنه كان قطعة ورق محترقة تقريبًا، سوداء من المسحوق، والتي كانت تستخدم كحشوة فى بندقية القاتل. على هذه القصاصة من الورق، طُبع عدد قليل من الأبيات، نهاية أغنية، بلا شك، لكن الكتاب الذى كانت قد مزقت منه هذه الورقة لم يكن بالإمكان اكتشافه.

تم الاشتباه في قيام صياد غير معروف بارتكاب جريمة القتل. تمت ملاحقته وسجنه واستجوابه ومضايقته؛ لكنه لم يعترف وتمت تبرئته لعدم كفاية الأدلة.

هذا هو عرض هذه الدراما. تعتقد و كأنك تقرأ رواية مغامرات رهيبة. كل شىء موجود فيها : حب الأخوين، غيرة أحدهما، موت المفضل، الجريمة فى ركن غابة، تعقب العدالة، تبرئة المدعى عليه ، و يظل الخيط الخفيف فى يد القضاة، هذه القطعة من الورق المسحوق الأسود.

والآن مرت عشرين سنة. الأصغر، متزوج، سعيد، غنى ومقدر؛ لديه ثلاث بنات. واحدة منهن سوف تتزوج بدورها. تتزوج من ابن قاضٍ سابق، أحد أولئك الذين كانوا يجلسون كقضاة فيما مضى عندما اغتيل الأخ الأكبر.

و ها هو يقام الزواج،  زواج ريفى كبير، حفل زفاف. يتصافح الوالدان والشباب سعداء. نتناول العشاء فى صالة القصر الطويلة؛ نشرب، نمزح، نضحك، وتصل الحلوى، يقدم أحدهم إقتراح أن نغنى كما كنا نفعل فى الأيام القديمة.

الفكرة راقت للجميع و بدأ كل شخص يغنى.

عندما أتى دوره، كان والد العروس يبحث فى رأسه عن فقرات قديمة كان يدندن بها فيما مضى، وشيئًا فشيئًا يجدها.

إنها فقرات تجعل الناس تضحك، تصفق؛ هو يستمر، يغنى الفقرة الأخيرة؛ ثم، عندما انتهى، سأله جاره القاضى: " أين وجدت هذه الأغنية بحق الجحيم؟ أنا أعرف الأبيات الأخيرة. حتى يبدو لى أنها مرتبطة ببعض الظروف الهامة فى حياتى، لكنى لست أعرف بالتأكيد؛ أفقد ذاكرتى قليلا.

" وفى اليوم التالى، يغادر المتزوجون حديثًا فى رحلة زواجهم.

ومع هذا، فإن الهوس بالذكريات الحائرة، تلك اللهفة المستمرة لإيجاد شىء يهرب منك باستمرار ، كانت تضايق والد الشاب. كان يدندن دون راحة القرار الذى غناه صديقه، ولا يزال لا يستطيع أن يجد من أين أتى بهذه الأبيات التى كان يشعر أنها محفورة لفترة طويلة فى رأسه، كما لو كان لديه اهتمام جاد بعدم نسيانها.

مرت سنتان أخريان. وها هو فى أحد الأيام، يتصفح الأوراق القديمة، يجد تلك القوافى التى كان يبحث عنها كثيرًا و قد نسخها بنفسه.

كانت هذه الأبيات هى التى بقيت مقروءة و واضحة على حشو البندقية التى استخدمت فى القتل من قبل.

لهذا يبدأ التحقيق مرة أخرى من تلقاء نفسه. يتساءل بذكاء، وينقب فى أثاث صديقه، لدرجة أنه يجد الكتاب الذى قطعت منه الورقة.

الدراما تحدث فى قلب هذا الأب الآن. ابنه هو صهر الشخص الذى يشتبه فيه بشدة ؛ ولكن إذا كان من يشتبه فيه مذنب فقد قتل أخاه ليسرق خطيبته! هل هناك جريمة أبشع؟

ينتصر القاضى على الأب. تبدأ المحاكمة مرة أخرى. القاتل الحقيقى فى الواقع هو الأخ. يتم إدانته.

هذه هى الحقائق التى قيلت لى. يتم التأكيد أنها صحيحة. هل يمكن أن نستخدمها في كتاب دون أن نبدو وكأننا نقتدى بعبودية السيد  مونتبين وبواسجوبى؟

إذا، فى الأدب كما فى الحياة، فإن الحقيقة المقررة و البديهية: " كل حقيقة ليست جيدة لكى تقال" تبدو لى أنها قابلة للتطبيق تمامًا.

أنا أعتمد على هذا المثال، الذى يبدو لى مؤثرا. إن رواية كتبت بمثل هذا المعطى من شأنها أن تترك القراء فى حالة من عدم التصديق، وتثير تمرد كل الفنانين الحقيقيين.

6 أغسطس 1882