الكاتب : جى دو موباسان

ترجمة : نجيب محفوظ نجيب
         كاتب و باحث و مترجم


 - أستمع، ميليال! يقول شخص ما بالقرب منى.

نظرت إلى الرجل الذى تم نداء أسمه، لأننى كنت أرغب فى معرفة هذا الدون جوان منذ فترة طويلة.

لم يكن شابا صغيرا. شعره رمادى، الرمادى الغائم، كان يشبه إلى حدٍ ما القبعات المكسوة بالفرو التى  يرتديها بعض شعوب الشمال، كما بدت لحيته الرقيقة، الطويلة نوعاً ما، التى تنزل على صدره ، مثل الفراء. كان يتحدث مع امرأة، يميل نحوها، يتحدث بصوت منخفض، ينظر إليها بعين لطيفة، مليئة بالإحترام والمداعبات.

كنت أعرف حياته أو على الأقل ما كان يعرف عنها. لقد كان يحب بجنون عدة مرات؛ وحدثت دراما وجد اسمه ممتزجا بها. كان يتم الكلام عنه على أنه رجل وسيم للغاية، لا يقاوم تقريبًا. عندما كنت أسأل السيدات اللاتى كن يمدحنه أكثر، لكى أعرف من أين كانت تأتى قوته، كن يجبن دائمًا، بعد التفكير و البحث بعض الوقت: - لا أعلم ... هذا سحر.

بالتأكيد أنه لم يكن وسيمًا. لم يكن لديه أى شىء من الأناقة التى نفترض أن الفاتحين لقلوب النساء قد وهبوا بها. كنت اتساءل باهتمام أين كان يختبئ إغوائه. فى الروح؟ ... لم يكن يذكر لى أحد كلامه أو حتى يحتفل بذكائه ... فى نظرة عينيه؟ ... ربما ... أو فى الصوت؟ ... صوت بعض الكائنات لديه أناقة حسية، لا تقاوم، طعم الأشياء اللذيذة فى الأكل. يكون لديك جوع لسماعهم ، وصوت كلماتهم ينفذ إليك مثل الحلوى.

مر صديق. سالته:
- هل تعرف السيد ميليال ؟

- نعم.

- إذا قدمنا الواحد للآخر .

بعد دقيقة، كنا نتصافح ونتحدث بين بابين. ما كان يقوله كان حقا، وممتعًا لسماعه، ولا يحتوى على أى شىء أفضل. كان الصوت، فى الواقع، جميلًا، ناعمًا، مداعبا، موسيقيل؛ لكننى قد سمعت المزيد عن الذين لديهم سحر، والمزيد عن الذين لديهم تقلبات. لقد كنا نستمع إليه بسرور ، كما لو كنا نشاهد تدفق مصدر المياه الجميل. لم يكن يوجد ضرورة إلى توتر فى التفكير لتتبعه، ولم يكن أى سوء فهم يثير الفضول، ولم يكن أى توقع يوقظ الاهتمام. كانت محادثته هادئة إلى حد ما ولم تكن تشعل فينا رغبة شديدة للرد والتناقض، أو موافقة سعيدة.

كان من السهل الرد عليه مثل الاستماع إليه. كان الجواب يأتى على شفتيه بمجرد ان ينتهى من الكلام، و كانت الجمل تتدفق نحوه وكأن ما كان يقوله يجعل الكلام يخرج من فمه بشكل طبيعى.

سرعان ما جاءتنى فكرة. أنا أعرفه منذ ربع ساعة، كان يبدو لى و كأنه أحد أصدقائى القدامى، وأن كل شىء عنه كان مألوفًا بالنسبة لى منذ فترة طويلة: وجهه، وإيماءاته، وصوته، وأفكاره .

فجأة، بعد لحظات قليلة من الحديث، كان يبدو لى و كأنه قد سكن فى خصوصيتى. كل الأبواب كانت مفتوحة بيننا، وربما قلت له عن نفسى، إذا كان قد طلبها ، تلك الثقة التى عادة لا يمنحها الإنسان إلا لأقدم الرفاق.

بالتأكيد كان يوجد سر. هذه الحواجز المغلقة بين جميع الكائنات، و التى كان الوقت يدفعها واحدًا تلو الآخر، عندما ينهار التعاطف، والأذواق المتماثلة، ونفس الثقافة الفكرية والعلاقات الثابتة شيئًا فشيئًا ، ويبدو أنها كانت غير موجودة بينى وبينه، ولا شك بينه و بين جميع هؤلاء، الرجال والنساء، الذين كانوا قد ألقتهم الصدفة فى طريقه.

بعد نصف ساعة افترقنا، و تواعدنا بأن نلتقى مرة أخرى كثيرًا، وأعطانى عنوانه بعد أن دعانى  لتناول الغداء بعد يومين.

لأننى نسيت الوقت، وصلت مبكرًا جدًا ؛ لم يكن قد عاد إلى المنزل. فتح خادم محترم صامت أمامى صالون جميل مظلم قليلاً، خاص و مرحب. كنت أشعر بالراحة هناك، كما لو كنت فى منزلى. كم مرة لاحظت تأثير الشقق على الشخصية والروح! يوجد غرف تشعر فيها دائمًا بالغباء ؛ الآخرى ، على العكس من هذا، حيث تشعر دائمًا بالضيق. البعض محزن، رغم أنه واضح، أبيض وذهبى؛ يضىء البعض الآخر، على الرغم من أنهم يرتدون الأقمشة الهادئة. إن أعيننا، مثل قلوبنا، لديها كراهيتها وحنانها، وهو ما لا تشاركه معنا فى كثير من الأحيان، والذى تفرضه على مزاجنا سراً وخفاءً. تناغم الأثاث والجدران وأسلوب المجموعة يؤثر على طبيعتنا الفكرية على الفور، تمامًا كما يغير هواء الغابة، البحر أو الجبل طبيعتنا المادية.

جلست على اريكة كانت قد اختفت تحت الوسائد، وشعرت فجأة بأننى مسنود، و محمول ومبطن بهذه الأكياس الصغيرة المصنوعة من الريش والمغطاة بالحرير، كما لو أن شكل ومكان جسدى قد تم تحديده مسبقًا على هذا الأثاث.

ثم نظرت. لا شىء مبهر او لامع فى الغرفة؛ أشياء متواضعة جميلة فى كل مكان، أثاث بسيط ونادر، ستائر شرقية كان لا يبدو أنها قد جاءت من متحف اللوفر، ولكن من داخل حرم، وأمامى بورتريه امرأة. كان بورتريه متوسط الحجم يظهر الرأس والجزء العلوى من الجسد والأيدى التى كانت تمسك بكتاب. كانت شابة، عارية الرأس، ترتدى عصابات رأس مستوية، وتبتسم قليلاً بحزن. هل هذا بسبب أن رأسها كان عارياً، أو بسبب انطباع مظهرها الطبيعى جدا، لكن لم يبدو لى أن بورتريه المرأة فى مكانه مثل البورتريه الموجود فى هذا المسكن. كل من أعرفهم تقريبًا فى الصورة، إما أن السيدة ترتدى ملابس احتفالية، أو تسريحة شعر مناسبة، أو يبدو عليها المعرفة الجيدة التى تضعها أمام الرسام أولاً، ثم أمام كل من سينظر إليها، أو تتخذ هيئة متروكة فى إهمال تم اختياره جيدًا.

البعض يقف، بهيبة، بجمال كامل، تبدو عليه الفخامة التي لا يجب أن يحتفظ بها لفترة طويلة فى الحياة العادية. البعض الآخر يبتسم فى سكون القماش. وجميعهم لا يملكون شيئًا ، زهرة أو جوهرة، ثنية فستان أو شفاه يشعر الإنسان أن الرسام قد وضعها، من أجل التأثير. سواء كانوا يرتدون قبعة، أو دانتيلًا على رؤوسهم، أو شعرهم فقط، يمكننا أن نخمن شيئًا غير طبيعى فيهم. ماذا ؟ نحن نجهله، لأننا لم نعرفهم، لكننا نشعر به. يبدو أنهم يزورون مكانًا ما لدى الأشخاص الذين يريدون إرضائهم، والذين يريدون إظهار أنفسهم بكل ما لديهم من مزايا؛ ودرسوا موقفهم، المتواضع أحيانًا ، والمتغطرس أحيانًا.

ماذا يقال عن هذه؟ كانت فى المنزل وحيدة. نعم ، لقد كانت وحيدة ، فقد كان تبتسم كما يبتسم الإنسان عندما يفكر وحده فى شىء حزين وجميل، وليس مثلما يبتسم الإنسان عندما ينظر إليه. كانت وحيدة تماما، وفى المنزل، لدرجة أنها تشعر بالفراغ فى هذه الشقة الكبيرة بأكملها، الفراغ المطلق. كانت تسكنها، تملأها، تنشط فيها وحدها؛ يمكن للكثير من الناس أن يدخلوا إلى هناك، ويمكن للجميع التحدث والضحك وحتى الغناء ؛ ستكون دائمًا هناك بمفردها، بابتسامة وحيدة، وستجعله بمفردها ينبض بالحياة بنظراتها من البورتريه.

كانت فريدة أيضًا، تلك النظرة. لقد وقعت على مباشرة، مداعبة و ثابتة، دون أن ترانى. تعرف كل البورتريهات أنه يتم التفكير و التأمل فيها، ويستجيبون بأعينهم التى ترى، وتفكر، وتتبعنا، دون أن تتركنا، منذ دخولنا إلى خروجنا من الشقة التى يعيشون فيها.

لم يكن هذا البورتريه يرانى، ولم يكن ير أى شىء، على الرغم من أن نظره كان موجها و مثبتا على مباشرة. تذكرت بيت شعر بودلير المفاجئ:

وعيناك الجذابتان مثل تلك الأعين الموجودة في البورتريه.

لقد كانت تجذبنى، فى الواقع، بطريقة لا تقاوم، ألقت في داخلي اضطرابًا غريبًا ، قويًا ، جديدًا ، تلك العيون المرسومة، التى كانت قد عاشت، أو التى لا تزال تعيش على قيد الحياة ، ربما. أه ! يا له من سحر لا متناهٍ وناعم مثل نسيم عابر ، مغر مثل سماء تموت من شفق أرجوانى، وردى وأزرق، وقليل من الكآبة مثل الليل الذى يأتى من الخلف، الذى كان يخرج من هذا الإطار المظلم ومن تلك العيون التي لا يمكن اختراقها! تلك العيون، تلك العيون التى تم رسمها  ( خلقها - إنشائها - إبداعها )  بواسطة ضربات فرشاة قليلة، كانت تخفى بداخلها سر ما يبدو أنه موجود و هو غير موجود، وما يمكن أن يظهر فى نظرة المرأة ، وما يجعل الحب ينبت فى داخلنا.

فتح الباب. دخل السيد ميليال. اعتذر عن كونه متأخرا. اعتذرت لكونى أتيت فى وقت مبكر. ثم قلت له: - هل يكون من الحماقة أن أسألك من هى هذه المرأة؟

أجاب : - إنها والدتى التى ماتت و هى شابة.

ثم فهمت من أين قد أتى الإغواء الذى لا يمكن تفسيره لهذا الرجل!

29 أكتوبر 1888