د. نادر نور الدين
دفعت الأزمات المتكررة لارتفاع أسعار الغذاء خلال العقدين الماضيين وأيضا ارتباط ارتفاع أسعار الغذاء بأسعار البترول والتى تعتمد عليه فى إنتاج الأسمدة والمبيدات ومنظمات النمو ورفع مياه الآبار والتسويق والحفظ والتبريد والتصنيع، جميع دول العالم سواء كثيفة السكان أو دول الشح المائى للتفكير فى تأمين غذائها حاضرا ومستقبلا. تعتبر دولة الصين هى الرائدة فى الزراعة خارج أراضيها نتيجة للكثافة السكانية العالية بها، حيث أستأجرت مساحات شاسعة فى الفلبين ومدغشقر والعديد من الدول الآسيوية والإفريقية وتلتها دول كثيرة لتأمين احتياجات شعوبها من الغذاء حتى أطلقت الأمم المتحدة استنكارا وتساءلت هل هو استثمار زراعى أم احتلال اقتصادى واستغلال لموارد الوفرة فى الدول الإفريقية والآسيوية تحت زعم الاستثمار؟!.

ولا شك فى أن الزراعة فى الداخل متى توافرت الموارد المائية والأراضى القابلة للزراعة هى الأفضل فى تأمين الغذاء دون مخاطر أو نفقات خارجية وأنها بعد التأسيس تستمر فى الإنتاج أبد الدهر كما هو الحال فى أراضى محافظة الإسماعيلية التى بدأت زراعتها من 200 سنة واستمرت وستستمر، ومثلها أراضى محافظة كفر الشيخ التى كانت مجرد أحراش وبرارى، ومن بعدها أراضى مديرية التحرير والصالحية والنوبارية ووادى الملاك ورمسيس وغيرها من أراضى الاستصلاح. المشكلة الأساسية فى مصر - التى تمثل الصحارى الحارة الجافة بها نحو 96% من مساحتها، ومثلها الدول العربية بنسبة صحارى 80% - هى قلة المياه وندرتها والتى حددتها الأمم المتحدة بألا يقل نصيب الفرد فى جميع القطاعات زراعة وصناعة ومنزليا وبيئة وطاقة عن 1000-1700 متر مكعب سنويا وإلا يعيش الفرد فى فقر مائى، وجميع الدول العربية تعيش تحت حد الفقر المائى باستثناء ثلاث دول هى موريتانيا والعراق والسودان وجميعها ستدخل فى حزام الفقر المائى فى عام 2050، وبعضها يعيش فى فقر مدقع تحت مستوى 500 م3 للفرد سنويا مثل كل دول الخليج وليبيا والجزائر. ونتيجة لهذا النقص المائى الحاد والمناخ الجاف الحار الذى يجعل إنتاج الغذاء فى المنطقة العربية يستهلك مياه أكثر من مثيلها فى الدول الباردة والمعتدلة بدأ العديد من الدول العربية منها فى استئجار وتملك أراض فى دول الوفرة الزراعية لزراعتها لحسابها وتوفير الأمن الغذائى لشعوبها بعيدا عن مضاربات بورصات الغذاء وتكرار دورات أزمات ارتفاع أسعارها وهو ما يضاعف نفقات إستيراد الغذاء، والبالغة 60% من احتياجات الدول العربية وعادة ما تخسر فيها مابين 1-2% من ناتجها المحلى مع كل أزمة ارتفاع لأسعار الغذاء وتتسبب فى ارتفاع أسعار الغذاء لمواطنيها وتراجع قيمة عملاتها المحلية.

وقد أوضح البنك الدولى فى إحدى دراساته الإجابة عن السؤال الخاص بهل من الأفضل للدول المستوردة لأغلب غذائها شراء الغذاء من البورصات العالمية أم زراعته لحسابها فى دول الوفرة الزراعية؟!. وأوضحت الدراسة أن الزراعة فى أراضى الغير قد توفر حماية من تقلبات ومخاطر الأسواق العالمية ولكن بتكلفة كبيرة. كما أن الاعتماد على الأسواق العالمية للحصول على كميات كبيرة من الغذاء أمر يكتنفه الشك وعدم اليقين، وأن الاستثمار فى أراضى الغير يتطلب تحمل مخاطر تقلبات الطقس والمخاطر السياسية والأمنية، كما أن الأموال المحبوسة فى شراء الأراضى الزراعية أو إيجارها لا يمكن الإفراج عنها بسهولة لشراء الغذاء إذا ما ساء الطقس أو زادت التقلبات الأمنية والسياسية، وعلى ذلك فهناك من يرى أن الشراء من الأسواق العالمية يتضمن مرونة أكبر مما هو متوافر فى الاستثمار لدى الغير. يضاف إلى ذلك ضرورة تحديد الدولة المراد الاستثمار بها طبقا لمناخها وتسهيلات الاستثمار والشحن بها وزمن الإجراءات اللازمة لإرسال الغذاء المنتج إلى بلد المستثمر. فمثلا إذا أردنا زراعة القمح والذرة وبنجر السكر فى الخارج فيكون ذلك فى دول المناطق الباردة والتى يجود بها زراعتها، وإذا أردنا زراعة قصب السكر فيكون فى البلدان الاستوائية والقريبة منها والتى تمتلك مصانع إنتاج السكر من القصب وهكذا باقى السلع. ويفضل أيضا زراعة الحاصلات الإستراتيجية فى بلدان تحقق الاكتفاء الذاتى من هذه الحاصلات وألا تكون تستوردها أو تعانى من نقص أو عجز لاستيرادها، وهذا يعنى مثلا زراعة القمح فى كندا وروسيا ورومانيا والمجر وأوكرانيا، بعكس زراعتها فى السودان أو العراق أو موريتانيا فسيكون من الصعب تصدير هذا الغذاء من بلد تحتاجه وسينظرون إلينا إلى كوننا نأخذ طعام الجوعى لحسابنا كدول مستغلة، وهنا تنص توصيات البنك الدولى بأنه لا يصح الاستثمار فى بلدان الفقر الغذائى إلا لصالح الفقراء منهم، أى أن يباع المحصول فى هذه الدول، ولهذا السبب أستثمرت الدول الغربية فى زراعة حاصلات الوقود الحيوى فى إفريقيا وآسيا حيث لن تطالب حكومات وشعوب هذه الدول بحصص منها ولا هى تمتلك تقنيات إنتاج الوقود الحيوى من هذه الحاصلات. وفى الدول التى تفضل الاستثمار الزراعى فى الخارج عن طريق القطاع الخاص فإن المستثمر يطلب من حكومته بضمانات وتأمين لهذا الاستثمار من أجل الذهاب لدولة بعينها من أجل أمور سياسية أو تحسين علاقات وخلافة، ولكن الحكومات تخشى من تأمين هذا الاستثمار خشية أن يستغله المستثمر بشكل غير قانونى لصالحه ويدعى اعتداءات أو تدمير لزراعاته أو سرقة للآلات على غير الحقيقة، كما أن القطاع الخاص يرفض الاستثمار فى الخارج دون ضمانات وتأمين على أمواله من حكومته ومن حكومة الدولة المضيفة.

إذن هناك مميزات ومخاطر للاستثمار فى الخارج والداخل، وعلى الدول المختلفة الاختيار بدقة قبل قرار الزراعة فى أراضى الغير أو الشراء من البورصات العالمية وتحمل تقلبات الأسعار.
نقلا عن الأهرام