د. أحمد الخميسي
سدد الطبيب إلي نظرة مرتابة ثابتة، سرعان ما نحاها بنفضة رأس. سألني: " هل أجريت هذا الفحص من قبل؟". نفيت له ذلك. تروى يقول بتعاطف: " لا أدري أترجع الحالة إلى سبب عضوي أم أنها ضائقة معنوية حطت من قواك؟ في كل الأحوال سيحدد لنا الفحص  الاتجاه السليم". غمغمت بعبارة تقدير وانصرفت.

وقفت أتلفت يميني ويساري في الشارع قبل أن أعبر الطريق.  في تلك اللحظة لمع في خاطري أنني تجاوزت الأربعين. هكذا بغتة تذكرت سني كأني لم أكن في تلك السن  قبل هذه اللحظة، كأنما أمسيت فيها لتوي.

ركبت سيارتي وتحركت وشتى الهواجس تنقر أعصابي كالطيور الجارحة. لم أتوقف عند كلمات الطبيب، لكن نبرة صوته ونظراته هي التي اثارت قلقي. فتحت باب مسكني. ألقيت حقيبة يدي على المقعد المجاور للباب. توجهت مباشرة إلى حيث الكمبيوتر. جلست أفتش في الانترنت عن طبيعة الفحص المرتقب. اتضح أنه يبين سلامة وظائف الأعضاء من عدمها بواسطة جهاز رنين مغناطيسي. قادني الفضول لإلقاء نظرة على شكل الجهاز. وجدته أشبه ما يكون بسرير نقال يدخل بالإنسان إلى حجرة اسطوانية مدورة تنغلق عليه حيث يتم الفحص. لبثتُ سارحا أمام الشاشة ساهما نحو دقيقتين. لم أكن أشكو من مرض بعينه، إنما هي حالة ضعف وإنهاك تجعل أقل مجهود مرهقا ولو كان ارتداء الملابس.

غالبت ثقل ساقي ونهضت. اتجهت إلى المطبخ. أشعلت الموقد لأعد فنجان قهوة ورحت أراقب الفقاعات تتواثب إلى سطح الكنكة. تذكرت أنها كانت من هدايا العرس. مازالت باقية بعد عشر سنوات من وفاة زوجتي وهجرة ابني الوحيد إلى أستراليا. ظلت معلقة في المطبخ إشارة إلى أن النحاس أطول عمرا من الشعور. بعد نحو عام من وفاة زوجتي حشرت ملابسها في حقيبة وأعطيتها لأختها، لكن أشياء صغيرة دقيقة تخصها كانت تثب أمامب من وقت إلى آخر ، كأنها تصارع الاندثار بتوحش. حق بودرة مغلق لم يستخدم، مشط تشابكت في طرفه شعرات من رأسها. وكنت أتخلص أولا بأول من كل ما يظهر بشعور مؤسف أنني ألقي إلى العدم برسائل من العالم الآخر. لم يكن ثمت من أفضفض له عن نفسي، وسنة بعد أخرى لم يبق في البيت سوى صدى خطواتي يتغذى بالصمت والوحشة متضخما. ولم تصادفني عينان توقدان العشق الذي لا ندري كيف أو أين أو متى ينبعث؟    استوت القهوة. اتجهت وبيدي الفنجان إلى الصالة. جلست على فوتيه نهبا لشعور الرهبة من الفحص، من ناحية لأني قد تجاوزت سن الشباب، ومن ناحية لأني بسبب التدخين أعاني من حبسة صدرية تتمكن مني لحظات الانفعال والخوف فأعجز عن التنفس وأختنق متخبطا. هدأت نفسي و قلت : غدا يكون ما يكون.

في الثالثة ظهرا وقفت في صالة الاستقبال بمعمل التحاليل وذراعي مدلاة بتقارير طبية. كنت مشتتا أنقل بصري من موضع إلى آخر حتى انتبه إلى موظف جالس خلف حاجز زجاجي، فأشار إلي بإيماءة من رأسه. تقدمت نحوه. أنهى الاجراءات الورقية وتسلم المبلغ المطلوب وقال: "سيأتي الآن مرافق ليصحبك". سرعان ما أقبل نحوي شاب قصير القامة. توقف  وأشار بأدب إلى ردهة على يساره قائلا:" تفضل حضرتك". سبقني بعدة خطوات حتى بلغنا صالة ضيقة عن يمينها باب حجرة     وقال:" هنا". فتحت الباب. دخلت. استقبلني طبيب طويل نحيل بنظارة غامقة. لمحت بطرف عيني جهاز الفحص في وسط  الحجرة. لوح مستطيل مرفوع في الهواء، طرف منه ينتهي بوسادة للرأس، والطرف الآخر يكاد يختفي في فوهة الدائرة الاسطوانية الضخمة. أشار الطبيب إلى ساتر وراء الجهاز وقال: " اخلع ملابسك هناك وستجد بالطو من القماش ضعه على كتفيك". غيرت ملابسي وأنا ألوم نفسي بنصف ندم لأني لم آت برفقة صديق. خرجت من وراء الساتر. أومأ الطبيب إلى اللوح قائلا :" تفضل اصعد". أعطيت ظهري لحافة اللوح. اعتمدت على مرفقي ورفعت جسمي، وتمددت  بطول السرير. تمتم الطبيب:" سيستغرق الفحص نصف ساعة، لكن من المهم ألا تأت بأي حركة خلال الفحص"، ودفع الي بخرطوم رفيع مرن ينتهي بكرة مطاطية قائلا :" ضع هذه الكرة في قبضة يدك. إذا حدث أي طارئ اضغط عليها". رحت أختبر الكرة عدة مرات مقدرا أنها ستكون في العتمة وسيلة اتصالي الوحيدة بالعالم. أولاني الطبيب ظهره ومضى إلى ركن من الحجرة.

 بدأ الجهاز عمله بطنين ضخم مدو، وأخذ اللوح ينزلق بي إلى داخل الكرة الضخمة. اختفت قدماي، ثم ساقاي، فصدري، وبدت لي فوهة الجهاز حنكا مفتوحا يلتهمني قطعة وراء الأخرى. طوتني العتمة برائحة بلاستيكية. تسارعت دقات قلبي وجاشت نفسي بالغثيان. ظل الطنين الضخم يدوي في أعصابي، ويتراجع، ويدوي، طنين أجوف كأنه فراغ الموت يمتد، وكانت تقطعه دقات صفارة منتظمة مثل مطرقة حادة. كتمت أنفاسي وتصلبت كالحجر وتواترت علي مثل ومض وداع وجوه وأحداث متلاحقة، أنا جزء منها لكن كأنني لست أنا، ولا الوجوه هي الوجوه التي عرفتها، كأنها مقتطعة من حياة أخرى غريبة عني.، تعجبت أن تكون هذه حياتي التي قد أفارقها الان .  

توقف الجهاز وعاد  اللوح ينزلق بي إلى فضاء الحجرة. رحت بأنفاس متلاحقة ملهوفة أعب الهواء حتى هدأت. ملت برقبتي إلى اليمين يشدني عطر خفيف، فرأيت شابة جميلة في نحو العشرين تقف لصق حافة اللوح يشع من وجهها نور هادئ. سحبتني عيناها الواسعتان انداحت فيهما رقة رصينة. رمقتني بفضول وحنو خافت ولم تقل شيئا.  قررت أن أكسر دائرة الانجذاب الصامت فسألتها بصوت متردد: " هل انتهى الفحص؟". قالت:      " مازال أمامك عشر دقائق". لمحت شيئا بين أصابع يدها فاستفسرت عنه بنظرة. قالت توضح لي: " حقنة بصبغة لزوم الأشعة"، ثم أنزلت ذراعي أسفل اللوح وقبضت على سطح كفي من أعلى بإبهامها وعلى باطن كفي ببقية أصابعها، ثم ضغطت ضغطة صغيرة، دافئة مثل عناق الأطفال، وسرى الي منها على الفور شعور مثل السحر  بالانتعاش. زرقت الحقنة في كفي بسرعة ثم نفضت ذراعي والطبيب يخاطبها من ركن: " هل انتهيت دكتورة منار؟". ردت: " نعم". أولتني ظهرها وقطعت خطوتين إلى الطبيب، ثم توقفت. التفتت إلى وشملتني بنظرة غائمة.

مرة أخرى انزلق بي اللوح إلى داخل الكرة  ولطمني على الفور الطنين الثابت والدقات المنذرة. تعرقت أصابعي. شرعت ألهث. أخذت مشاعري تتخبط كغريق يتلهف على قشة، وفي عمق سحيق من نفسي  تكسرت هناك ارتجافة وتشعبت لتكتمل ضغطة ابهام حارة لينة، فاحتشدت يقظة أعصابي كلها في احساسي ببشرتها الناعمة، وراح الدم يخفق في قلبي. ضغطة فطنين، ضغطة أشد وأكبر  حنانا حتى تلاشى خوفي وانتظمت أنفاسي.

 انزلق اللوح خارجا بي. اقتربت منار مني وقالت: " تفضل ارتد ملابسك". أطلت النظر إليها أرتوي من وجودها الصامت العذب.

ارتديت ملابسي وخرجت، فرأيتها واقفة تتحدث مع الطبيب الذي التفت نحوي قائلا :" بعد غد تستلم النتيجة من الطابق الأول". شكرته بهزة من رأسي. وانتزعت روحي بالقوة من عيني منار.  

خرجت من المعمل. وجدت الشمس مشرقة في الشارع، وثمت نسم جميل يتحرك، كأن قوة مجهولة عدلت الجو فأصبح جميلا. سرت لا أحس إجهادا ولا تعبا، على العكس كنت مشحونا بالقدرة  على القيام بأي شيء. شاهدت عن يميني لافتة مقهى باسم "السلطانة". تمهلت. أرسلت بصري من عند البوابة إلى عمق المكان. دخلت وجلست إلى منضدة. كانت "السلطانة" عبارة عن حديقة واسعة مسيجة بجدار منخفض، تحفها دائرة من أشجار بونسيانا تتدلى من بين غصونها زهور حمراء ولامبات ملونة. في منتصفها ترقرقت بحيرة مياه صغيرة التفت حولها مناضد بمفارش خضراء واليها جلس شبان شدوا ظهورهم أمام بنات مسترخيات في غرام توهج من وقدة الأصابع المتشابكة. كانت "السلطانة" أجمل ما يكون، لا تشبع من الهواء والنور، تعلوها سماء صافية، وترتجف في جوها عواطف شابة. شملني فرح مفعم بوعود ومسرات غامضة وانتعشت روحي. وتجدد شعوري بضغطة اليد والحنان. رف كل ما حولي بعيني منار ورفت عيناها بكل ما حولي. تلمست بأصابعي موضع الضغطة في كفي، ولم أكن أدري وأنا في حضرة كل هذه الحياة قرينة الحب ما الذي ينبغي لي أن أفعله بكل هذا الجمال؟. ارتجفت من فرط الانفعال وأمسكت رأسي بين يدي. رفعت وجهي لأعلي وانشقت روحي عن صيحة متضرعة تسأل بحرارة دليلا وجوابا.
نقلا عن الاهرام