القمص يوحنا نصيف
    انفرد القدّيس لوقا في إنجيلِهِ بذِكْر مناقشة قصيرة تمّت بين الربّ يسوع المسيح والفرّيسيّين، وقد جاءت كما يَلِي: "وَلَمَّا سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ؟ أَجَابَهُمْ وَقَالَ: لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا ههُنَا، أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ" (لو17: 20-21).

    يُقَدِّم القدّيس كيرلّس الكبير تعليقًا قويًّا ودسِمًا على هذه الكلمات، فيقول:
    + مرّة ثانية يُقاوِمُ الفرّيسيُّ اللهَ، وهو لا يَشعُر أنّه يرفس المناخس، لأنّه بينما هو يتّخِذ مظهر مَن هو شغوف بالتَعَلُّم، فإنّه يَسخَر من الأسرار الإلهيّة المُقَدَّسة جدًّا، تلك التي "تشتهي الملائكة أن تَطَّلِع عليها" حسب كلام الطوباوي بطرس (1بط1: 12).

    + فقد اقتربوا منه وسألوه قائلين: "متى يأتي ملكوت الله؟" أيّها الفرّيسيّ الأحمَق خَفِّف من كبريائك، وتَنَحَّ عن السُخرِية التي تُعَرِّضَك لذنب ثقيل لا خلاصَ منه. فالكتاب يقول: "الذي لا يؤمن بابن الله قد دِينَ، لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يو3: 18). لأنّ موسى الإلهي سَبَقَ فأظهَرَ بالمثال والظِّلّ أنّ "الكلمة" هو طريق العالم وباب الخلاص؛ ومع أنّه هو الله، فقد ظهَرَ في هيئة بشريّة، واحتملَ موتَ الجسد لأجل الأرضِ كلّها.

    + تَتَّفِق أقوال الأنبياء القدّيسين أيضًا مع ما قاله موسى، لأنّهم سبقوا فأنبأوا إنّه سيأتي في الوقت المُعَيَّن، في صورة مُماثِلة لنا. وهذا أيضًا قد حدث؛ لأنّه أُظهِرَ للذين على الأرض، مُتَّخِذًا هيئةَ عبدٍ؛ ولكنّه رغم هذا احتفظَ بربوبيّته الطبيعيّة وسُلطانه، ومجده الإلهيّ، كما تَبَرْهَنَ بروعة الأعمال التي أجراها.

    + لكن أنت أيّها الفرّيسيّ لم تؤمن به، ولم تَقبَل التبرير بواسِطته، لأنّك مُعاند ومتكبِّر، وبعد هذا أنت تسأل: مَتى يأتي ملكوت الله؟!

    + مُخَلِّصُ الجميع كان يتكلّم في أحاديثه العَلَنِيّة من حين لآخَر عن ملكوت الله، لذلك فهؤلاء البؤساء يزدرون به، أو ربّما حتّى قد وضعوا في ذهنهم أن يصطادوه بخبثِهم.. لذلك فهُم يسألونه في سخرية: متى يأتي ملكوت الله؟ وكأنّهم يقولون إنّه قبل أن يأتي هذا الملكوت الذي تتحدّث عنه، فإنّ الصليب والموت سوف يُمسِكان بك. لذلك، بماذا أجاب المسيح؟

    + مرّة أخرى يُظهِر طول أناته وحُبِّه -الذي لا يُبارَى- للإنسان، لأنّه "إذ شُتِمَ لم يكُن يَشتِم عِوَضًا، وإذ تألّم لم يكُن يُهَدِّد" (1بط2: 23). لذلك فلم يوَبِّخهم بشِدّةٍ، ولكن بسبب خبثهم لم يتلَطَّف لكي يجيبهم على سؤالهم، بل يقول إنّ ما ينفع كلّ الناس، هو أنّه "لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، لأنّه ها ملكوت الله داخلكم" (لو17: 20-21).

    + ويقول لا تسألوا عن الأزمنة التي سيَظهر فيها أيضًا ملكوت السموات ويأتي، بل بالحريّ اجتهِدوا أن تُحسَبوا أهلاً له، لأنّه موجود داخلكم، أي أنّه يعتَمِد على مشيئاتكم الخاصّة، وهو في مُتناوَل أيديكم، سواء قبلتموه أو رفضتموه. لأنّ كلّ إنسانٍ قد حصل على التبرير بواسِطة الإيمان بالمسيح، وهو متزيِّن بكلّ فضيلة، فإنّه يُحسَب أهلاً لملكوت السموات.

    + لذلك أيّها الفرّيسيّ، إن أردتَ أن تُحسَب مُستَحِقًّا لملكوت الله، فَصِرْ واحِدًا من الخِراف، قدِّم للمسيح ثمرة إيمانك به، وامدَحْ السلوك المقدَّس الذي بِحَسَب الإنجيل؛ أمّا إن ظَلَلتَ جَدْيًا، أي غير مُثمِر، وخالٍ من الإيمان والأعمال الصالِحة معًا، فلماذا تسأل: مَتى يأتي ملكوت الله؟ لأنّه لا يهمّك، بل بالأحرَى خَفْ من العذاب المُقَرّر لغير المؤمنين..

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 117) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف